إسراء الردايدة رحل أمس المخرج المصري داوود عبد السيد ليغيب واحد من القلائل الذين لم يتعاملوا مع السينما بوصفها مهنة أو صناعة، بل بوصفها أداة تفكير طويلة النفس. ملامح أسلوبه كانت واضحة وحاسمة منذ بداياته: اقتصاد شديد في عدد الأفلام، تشدد في اختيار الموضوع، وبناء سردي يقوم على الشك لا اليقين.
لم يكن معنيا بالحكاية بقدر ما كان مشغولا بالبنية الذهنية للشخصية، ولا بالحدث بقدر ما كان منشغلا بما يتركه الحدث داخل الإنسان. سينماه بطيئة، محسوبة، خالية من الاستعراض، تعتمد على الحوار المكتوم، والفراغ، وصوت الراوي، والمكان بوصفه حالة نفسية، لا خلفية تصويرية.
أسلوب داوود عبد السيد يقوم على تفكيك الواقع بدل تمثيله؛ فهو يبدأ من اليومي والمألوف ثم يقوده إلى منطقة رمادية يتداخل فيها الواقعي بالذهني، والاجتماعي بالوجودي. شخصياته لا تُدفع نحو الذروة، بل تُترك في حالة اختبار ممتد، حيث التحول داخلي لا خارجي، وغالبًا غير مكتمل. لا يقدم أبطالًا يُهزمون أو ينتصرون، بل أفرادا يخرجون من التجربة مثقلين بالوعي، أو بالأسئلة، أو بالعزلة. كما أن لغته السينمائية ترفض القطع الحاسم: نهايات مفتوحة، دلالات غير مغلقة، ومواقف أخلاقية بلا أحكام جاهزة.
إذ بنى داوود عبد السيد سينما مضادة للسائد، لا تصالحية ولا تصادمية، بل تحليلية في جوهرها.
ومع رحيله، تبدو ملامح مشروعه أكثر وضوحا: سينما قليلة العدد، شديدة الانضباط، تنحاز للعقل والشك، وتستخدم الشخصية لا كوسيلة تعاطف فقط، بل كمرآة لفهم اختلال العلاقة بين الفرد والمجتمع والسلطة. هي سينما لا تطلب من المشاهد أن يشعر فقط، بل أن يفكر، وأن يعيد النظر في ما يراه بديهيا.
فلسفة داود عبد السيد في رسم شخصيات أبطاله
داود عبد السيد يُفضّل أبطالا من الهامش الاجتماعي أو ممن يحملون في داخلهم معاناة خاصة. غالبا ما يكون البطل فردا عاديا ظاهريا لكنه يختزن خلفية نفسية واجتماعية معقدة.
ففي فيلم «الكيت كات» (1991) نرى الشيخ حسني يعيش في حي شعبي فقير، رجل ضرير كان مدرس موسيقى سابقًا. ورغم إعاقته البصرية، يتمتع بحيوية مدهشة وبـ بصيرة شيطانية وإصرار عنيد على تحدي واقعه شخصيته مرحة ومليئة بالصخب، يستخدم الدعابة وتعاطي الحشيش للهروب من إحباطات حياته اليومية. كذلك يكابر على عاهته فلا يستخدم عصا للمشي، مقتنعًا بأنه يرى أفضل من المبصرين. هذه الخلفية تعكس مزيجا من اليأس والأمل في آن واحد؛ فهو فقير ومحروم من البصر، لكنه غني بروحه المتمردة على الواقع.
أما في فيلم «أرض الخوف» (1999) فنلتقي بشخصية يحيى الضابط المثالي المنضبط. يحيى ينحدر من خلفية وظيفية مستقرة ويحظى بسجل شرطي ناصع، لا تشوبه شائبة ولم يصبه زلل هذا النقاء هو ما يدفع رؤساءه لاختياره لمهمة سرية غير مألوفة؛ إذ يزرعونه كعميل في عالم المخدرات بكل ما فيه من آثام. خلفية يحيى المهنية والأخلاقية تجعله بمثابة آدم قبل الخطيئة الذي سيلقى في عالم مليء بالخطايا. على مدار الفيلم، نرى التحول النفسي لديه من ضابط واثق إلى رجل تطارده الشكوك حيال هويته وانتمائه. إنه مثال للبطل ذي الخلفية الأخلاقية الصارمة الذي يوضع في اختبار وجودي حاد.
يتجسد الصراع بين الواقع والخيال بشكل أكثر فلسفية. الفيلم ظاهريًا دراما بوليسية، لكن تحت هذا السطح هناك طبقات عميقة من الرمزية والبعد الأسطوري. يحيى يعيش واقعًا شديد القسوة عالَم الجريمة والمخدرات وفي الوقت نفسه يبني عالمًا موازيًا في ذهنه عبر رسائله التي يكتبها لرؤسائه. هذه الرسائل اليومية أشبه بمناجاة داخلية، يبوح فيها بكل ما يشعر به من ذنب وخوف وصراع.
ومع مرور الوقت، يصبح غير واضح إن كان أحد يقرأ رسائله أصلاً أم أنه يكتبها ليحافظ على ما تبقى من اتصاله بواقعه السابق (كرجل شرطة صالح). هنا يؤدي عنصر الراوي دورًا مهمًا؛ فصوت يحيى عبر رسائله هو الذي يروي لنا حكايته مما يجعلنا نرى الأحداث من منظور ذاتي داخلي. تتداخل التأملات الذاتية مع مجريات القصة بحيث يتحول الفيلم إلى رحلة ذهنية بقدر ما هو رحلة مادية.
داود عبد السيد نسج عالما فيه الحقيقة ممتزجة بالخيال: عالم سحري رمزي يطرح أسئلة دينية ووجودية. فمثلًا، يحيى يرى نفسه آدم الذي أُلقي في أرض مليئة بالشرور دون ضمانة للخلاص ؛ ورؤساؤه (السلطة) بمثابة قوة غامضة أشبه بالإله البعيد الذي كلّفه بالمهمة ثم تركه. هذه القراءة الأسطورية تجعل المشاهد يتساءل: هل ما نراه هو الواقع أم مجاز ديني/فلسفي يجري في ذهن البطل؟
هكذا نجح الفيلم في خلق طبقة خيالية (أسطورة آدم والأمانة والتفاحة ) داخل قصة واقعية ظاهرًا، مما أغنى تجربة العزلة الفكرية للبطل؛ فعالم المخدرات كان واقعه الخارجي، أما واقعه الداخلي فكان رحلة تأمل في القدر والمصير.
العزلة حاضرة بقوة هنا: يحيى منعزل تمامًا وسط عالم الجريمة، لا أحد يعرف حقيقته، ولا يستطيع التواصل بحرية مع أحد. وحتى الرسائل صلة التواصل الوحيدة ظلت من طرف واحد. هذا الشعور بالعزلة الوجودية عمّقه الإطار الخيالي للفيلم، حيث بدا يحيى وكأنه يحاور نفسه والفراغ.
وفي «مواطن ومخبر وحرامي» (2001) يقدم داود ثلاثة أبطال من مشارب اجتماعية مختلفة: سليم المواطن المثقف البرجوازي الشاب (كاتب روائي حالم)، وفتحي المخبر ابن البيئة الشعبية البسيطة، وشريف المرجوشي الحرامي القادم من قاع المجتمع (لصّ ومطرب شعبي في الوقت ذاته).
كل منهم يحمل تناقضات ثقافية: سليم النخبوي يعيش فراغًا روحيًا ويكتب ليمنح حياته معنى فتحي المخبر يسعى وراء لقمة العيش وتحسين حاله ولو بسرقة تفاحة من متجر واللصّ شريف لديه فلسفته الخاصة رغم حياته خارج القانون. هذه الشخصيات تبدو متباعدة طبقيا وثقافيا، لكن كل منها يحمل خللًا داخليًا يجعل مسارهم يتقاطع في النهاية. إن اختلاف المواقع الاجتماعية لم يكن سوى قناع؛ فجميعهم يفتقدون شيءًا أساسيًا ويدورون في فلك الفراغ ذاته.
الواقع في هذا الفيلم أشد صخبًا وفوضوية، والخيال يتسلل بشكل مختلف. الفيلم أشبه بلوحة سريالية تعجّ بالتفاصيل الواقعية الدقيقة من جهة (حياة الناس في المدينة بأواخر التسعينات)، ولكنه يستخدم معالجة عبثية وكوميدية تقترب أحيانًا من اللاواقع. العنصر الخيالي الأبرز هو وجود الراوي العليم الذي يعلق على الأحداث ويخبرنا بخفايا الشخصيات.. الفيلم أشبه بلوحة سريالية تعجّ بالتفاصيل الواقعية الدقيقة من جهة (حياة الناس في المدينة بأواخر التسعينات)، ولكنه يستخدم معالجة عبثية وكوميدية تقترب أحيانًا من اللاواقع. العنصر الخيالي الأبرز هو وجود الراوي العليم الذي يعلق على الأحداث ويخبرنا بخفايا الشخصيات.
هذا الراوي صوت خارجي يعرف كل شيء يذكّرنا أننا أمام حكاية قد تتخذ منحى الحكايات الشعبية أو الخرافية. وبالفعل، الكثير من أحداث الفيلم يخرج عن نطاق المتوقع وكأنه خيال ساخر: سيارة تُسرق ثم تُعاد بطرق غامضة، صداقات غريبة تنشأ بين أطراف متناقضة، رواية يكتبها المواطن لتُسرق وتُحرق ثم تُنشر في النهاية. هذه التتابعات تبدو غير منطقية تمامًا لو تأملناها بمعيار الواقع، لكنها ضمن منطق الفيلم انعكاس لواقع أشد غرابة عاشته مصر في عقدين مضطربين.
يمكن القول إن الخيط الفاصل بين الواقع والخيال يكاد ينعدم؛ فحياة الشخصيات نفسها عبارة عن فانتازيا اجتماعية. ورغم تعدد الشخصيات وتفاعلها الظاهري (مواطن يتعرف على مخبر، المخبر يصادق الحرامي )، يعطينا الفيلم انطباعًا قويًا بالعزلة الفردية: سليم المواطن كان منعزلًا ومراقَبًا قبل أن تبدأ الفوضى المخبر يعيش عزلة من نوع آخر (فهو مزروع لمراقبة الناس ولا يثق به أحد خارج سلطته)، والحرامي كان معزولًا في سجنه ثم في فلسفته الخاصة. لقاءهم كسر عزلتهم جزئيًا لكنه ولّد حالة اغتراب جماعي عن مجتمعهم الأكبر.
التفاعل الذي حدث بينهم كان على حساب انفصالهم عن بقية العالم، فكأنهم أسسوا مجتمعًا صغيرًا بديلًا عن الواقع العام. الخيال يتجسد أيضًا في الأغاني الشعبية التي تؤدى بشكل تعليقي داخل الفيلم، وكأنها تعقيب غنائي على الأحداث يضفي بعدًا كاريكاتوريًا (هذه التقنية تخلق واقعًا فنّيًا موازيا للواقع الدرامي). إذًا فالفيلم يجمع بين واقع قاسٍ (فساد، مراقبة أمنية، فقر ثقافي) وبين قالب حكائي خفيف ومجموعة مصادفات غير واقعية، مما يجعل المشاهد يشعر أحيانًا أنه أمام كابوس فكاهي أو حلم يقظة جماعي تمرّ به شخصيات الفيلم.
يمكن القول إن الخيط الفاصل بين الواقع والخيال يكاد ينعدم؛ فحياة الشخصيات نفسها عبارة عن فانتازيا اجتماعية. ورغم تعدد الشخصيات وتفاعلها الظاهري (مواطن يتعرف على مخبر، المخبر يصادق الحرامي)، يعطينا الفيلم انطباعا قويً بالعزلة الفردية: سليم المواطن كان منعزلًا ومراقَبًا قبل أن تبدأ الفوضى المخبر يعيش عزلة من نوع آخر (فهو مزروع لمراقبة الناس ولا يثق به أحد خارج سلطته)، والحرامي كان معزولًا في سجنه ثم في فلسفته الخاصة. لقاءهم كسر عزلتهم جزئيًا لكنه ولّد حالة اغتراب جماعي عن مجتمعهم الأكبر.
التفاعل الذي حدث بينهم كان على حساب انفصالهم عن بقية العالم، فكأنهم أسسوا مجتمعا صغيرا بديلًا عن الواقع العام. الخيال يتجسد أيضًا في الأغاني الشعبية التي تؤدى بشكل تعليقي داخل الفيلم، وكأنها تعقيب غنائي على الأحداث يضفي بعدًا كاريكاتوريًا (هذه التقنية تخلق واقعًا فنّيًا موازيا للواقع الدرامي).
إذًا فالفيلم يجمع بين واقع قاسٍ (فساد، مراقبة أمنية، فقر ثقافي) وبين قالب حكائي خفيف ومجموعة مصادفات غير واقعية، مما يجعل المشاهد يشعر أحيانًا أنه أمام كابوس فكاهي أو حلم يقظة جماعي تمرّ به شخصيات الفيلم.
على الجانب الآخر، «رسائل البحر» يتسم بجو هادئ وتأملي يطمس الحدود بين الواقع والحلم. البطل يحيى يعيش معظم الوقت في تأمل صامت أمام البحر، وفي حوارات داخلية مع نفسه فهو الوحيد الذي يفهمه تماما بسبب تلعثمه مع الآخرين هذا يمنح الفيلم إيقاعًا حالمًا. المدينة (الإسكندرية) حاضرة بكل واقعية في التفاصيل اليومية، لكننا نختبرها من خلال وعي يحيى الانعزالي. يمكن اعتبار كثير من مشاهد يحيى صيد السمك ليلًا، استماعه لموسيقى غامضة صادرة من نافذة بعيدة مشاهد حالمة أقرب للخيال. حتى الرسائل التي يشير إليها العنوان ليست رسائل حقيقية في زجاجات كما قد يُظن، بل هي لقاءات وتجارب يمر بها يحيى وتترك لديه رسائل ومعانٍ.
الفيلم يستخدم البحر كرمز: أحيانًا يبعث البحر رسائل (ربما عبر أصوات أو أشياء يلفظها الموج)، وأحيانًا يغرق فيه الأسرار. يحيى نفسه أشبه برسالة في زجاجة؛ إنسان معزول يحمل داخله معنى يريد إيصاله. علاقته بنورا أيضًا تنسج خيطًا بين الواقع والخيال: نورا بكل صراحتها وواقعيتها تقتحم عالمه الداخلي الخيالي.
هي تدفعه لمواجهة الحقيقة ( تربطه بالواقع المحيط به مهما رفضه ) وتزيل عن عقله الأفكار الطفولية التي أبقته معزولًا. مشاهد يحيى ونورا معًا فيها مزيج مرهف من الواقعية ومن الشاعرية (لقطات صامتة على البحر، موسيقى راجح داود الحالمة في الخلفية). كذلك شخصية العجوز الإيطالية (جارته) تضيف مسحة من الحنين والذكريات، فتستحضر ماضي الأسرة وكأنها شبح من زمن آخر يساعد يحيى في رحلته النفسية.
على امتداد الفيلم، يراوح يحيى بين العزلة (على مركبه أو في شقته القديمة) والتفاعل مع عدد محدود من الشخصيات. هذا التوازن الحذر يسمح له بالخروج التدريجي من قوقعته دون أن يفقد عالمه الداخلي. من الناحية السردية، صوت الراوي الداخلي حاضر أيضًا في رسائل البحر ولكن بطريقة مختلفة: يحيى ونورا يتبادلان التعليق صوتيًا على الأحداث، كلٍّ من وجهة نظره.
هذا الاستخدام المزدوج للراوي يقحمنا في رؤيتين داخليتين، مسلطًا الضوء على الفروق في وعي الشخصيتين رغم تفاعلهما معًا. إنه حوار بين ذاتين معزولتين أكثر منه مجرد حكاية حب واقعيةعبر هذه الأمثلة يتضح أن داود عبد السيد يوظف السرد والفن البصري لخلق حالة بينية، مُعلّقة بين الواقع والخيال. شخصياته كثيرًا ما تكون وحيدة في جوهرها، حتى وهي محاطة بالناس.
يعمّق عزلتها باستخدام أدوات سردية كصوت الراوي، أو بتوظيف المكان المرتفع والمنعزل (سطح المنزل في «الصعاليك» رمز للحلم والتحرر الربوة العالية في «سارق الفرح» رمز للعزلة والسمو عن المدينة).
وفي الوقت ذاته لا يتركها تنقطع كليًا عن التفاعل: يضعها في شبكة علاقات تكشف اغترابها أثناء تفاعلها. بهذا الأسلوب الثري، يتيح للمُشاهد قراءة.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الغد الأردنية
