مع اقتراب عام 2026، تدخل الاقتصادات العربية مرحلة دقيقة تتقاطع فيها تحولات الاقتصاد العالمي مع تحديات داخلية مزمنة وفرص ناشئة في آن واحد، فالعالم يمر بمرحلة إعادة تموضع اقتصادي تتسم بتباطؤ نسبي في بعض الاقتصادات الكبرى، وتشديد السياسات النقدية، واستمرار التوترات الجيوسياسية، مقابل تسارع غير مسبوق في التحول الرقمي، والذكاء الاصطناعي، واقتصاد الطاقة الجديدة، في هذا السياق لم يعد الاستشراف الاقتصادي خياراً نظرياً، بل أداة حاسمة لبناء المرونة وتوجيه مسارات النمو.
المؤشرات الكلية تقدم إشارات حذرة لكنها مشجعة، إذ تشير توقعات صندوق النقد الدولي إلى تسارع نمو الناتج المحلي الإجمالي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من نحو 3.3% في عام 2025 إلى نحو 3.7% في عام 2026. هذا التحسّن النسبي يعكس قدرة عدد من الاقتصادات العربية على التكيّف مع الصدمات الخارجية، مستفيدة من الاستقرار المالي، وتحسّن الطلب المحلي، واستمرار الإصلاحات الهيكلية، ورغم أن هذه التوقعات لا تلغي المخاطر، فإنها تؤكد وجود نافذة فرصة حقيقية إذا ما أُحسن توظيفها بسياسات استباقية.
الاستشراف الاقتصادي في السياق العربي يتطلب تجاوز منطق التخطيط التقليدي القائم على التوقعات الخطية، فالتحولات السريعة في سلاسل الإمداد، والتجارة العالمية، وأسواق الطاقة، تفرض على الحكومات بناء نماذج ديناميكية تعتمد على تحليل البيانات المتقدمة، والسيناريوهات المتعددة، والربط المباشر بين التنبؤ الاقتصادي وصنع القرار المالي والاستثماري، الدول التي ستنجح في 2026 هي تلك التي تتعامل مع المستقبل كمساحة تصميم، لا كسيناريو مفروض.
في هذا المشهد غير المتجانس، تبرز الدول ذات الاقتصادات الأقوى بوصفها الأكثر جاهزية، دول الخليج وعلى رأسها الإمارات والسعودية، دخلت مرحلة متقدمة من بناء الهوامش المالية وتنويع مصادر الدخل، مستفيدة من نمو القطاعات غير النفطية، ودور الصناديق السيادية كأدوات استثمارية واستراتيجية، هذه الاقتصادات أعادت توجيه فوائضها نحو قطاعات المستقبل مثل التكنولوجيا المتقدمة، والصناعة، والطاقة النظيفة، والخدمات اللوجستية، ما عزز قدرتها على امتصاص التقلبات العالمية، في المقابل تمثل دول مثل مصر والمغرب والأردن نماذج لاقتصادات كبيرة أو متوسطة الحجم تعمل على ترسيخ الاستقرار الكلي عبر إصلاحات مالية وهيكلية صعبة، وتحسين بيئة الاستثمار، وتعزيز دور القطاع الخاص، رغم الضغوط المرتبطة بالدين وكلفة التمويل.
قطاعياً، يشكّل الاقتصاد الرقمي أحد أبرز محركات النمو المتوقع في 2026؛ فاقتصاد البيانات، والخدمات المالية الرقمية، والتجارة الإلكترونية، باتت عناصر أساسية في خلق القيمة وفرص العمل، غير أن تعظيم العائد من هذا التحول يتطلب الاستثمار المكثف في رأس المال البشري، وربط التعليم والتدريب باحتياجات السوق، وتقليص فجوة المهارات، خصوصاً بين فئة الشباب التي تمثل النسبة الأكبر من سكان المنطقة.
أما في ملف الطاقة، فلا يزال النفط والغاز عنصرين مهمين في المدى المنظور، لكن الاستشراف الاقتصادي يفرض إعادة توظيف عوائدهما في بناء اقتصاد أكثر تنوعاً واستدامة، الاستثمار في الطاقة المتجددة، والهيدروجين الأخضر، وكفاءة الطاقة، لم يعد خياراً بيئياً فقط، بل مساراً اقتصادياً يعزز الموقع التنافسي للدول العربية في عالم يتجه تدريجياً نحو الحياد الكربوني.
إقليمياً، يبقى التكامل الاقتصادي العربي أحد أكثر المسارات قدرة على مضاعفة الأثر، فالتنسيق في مجالات التجارة، والطاقة، واللوجستيات، والبحث والتطوير، يمكن أن يخلق سوقاً أوسع وأكثر جاذبية للاستثمار، ويمنح الاقتصادات العربية وزناً تفاوضياً أكبر في نظام عالمي يتجه نحو التكتلات.
في ضوء ذلك، تبرز مجموعة من التوصيات الأساسية. أولها ترسيخ الاستشراف الاقتصادي كمكوّن مؤسسي دائم مرتبط بصنع القرار، لا كتمرين تقني معزول، وثانيها تسريع الاستثمار في الإنسان والمهارات المستقبلية باعتبارها الضامن الحقيقي للنمو المستدام، كما تتطلب المرحلة سياسات مالية مرنة قادرة على التكيّف مع دورات الاقتصاد العالمي دون الإضرار بالاستقرار الاجتماعي، إلى جانب دبلوماسية اقتصادية أكثر توازناً تقوم على تنويع الشركاء وتعظيم القيمة المحلية من الاستثمارات الأجنبية.
ويبقى السؤال المفتوح: مع اقتراب عام 2026، هل ستنجح الدول العربية في تحويل الاستشراف الاقتصادي من رؤى وتقارير إلى سياسات جريئة تعيد رسم مسارات النمو، أم سيظل المستقبل يُدار بالأدوات نفسها في عالم تغيّرت قواعده بالكامل؟
هذا المحتوى مقدم من منصة CNN الاقتصادية
