إذا كانت الوصيّة الواجبة لا تُدرَج في باب الإرث، ولا تُمارَس إلا بوصفها إحسانًا منضبطًا تشريعًا داخل الثلث، فإن السؤال الجوهري، الذي يفرض نفسه اليوم ليس عن أصلها، بل عن موقعها الحقيقي بين الفريضة والإحسان، وحدود ما يجوز تنظيمه وما يُمنع تعديله في التشريع الإسلامي.
بعد هذا المسار التحليلي في المقالات السابقة، يتبيّن أن الإشكال الحقيقي في ملف الوصيّة الواجبة لا يكمن في أصل مقصدها الإنساني، ولا في الدافع الاجتماعي الذي استدعاها، وإنما في موقعها الشرعي وحدودها التطبيقية. فبين من أراد إدخالها في باب الفرائض توسيعًا، ومن خشي إلغاءها سدًّا للذرائع، ضاعت أحيانًا المعادلة الدقيقة، التي أقامها الشرع بين الحقّ القطعي والإحسان المصلحي.
لقد قرّر القرآن الكريم نظام الميراث بعباراتٍ فاصلة لا تحتمل التأويل، فقال سبحانه: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ»، ثم قال: «فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ»، وختم بقوله: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ». وهذه النصوص تُنشئ نظامًا إلهيًا مغلقًا من حيث الورثة والأنصبة، لا يقبل الزيادة ولا النقصان، ولا يجوز أن يُفتح فيه باب استثناء تشريعي يُغيّر جوهره أو يهدم قواعده، وعلى رأسها قاعدة الحَجْب. وفي المقابل، جاءت الوصيّة في الشريعة بابًا مستقلًا، يقوم على الإحسان والاختيار وسدّ الخلل، لا على الاستحقاق واللزوم.
وقد حدّد النبي ﷺ سقف هذا الباب بقوله لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: الثُّلُث، وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، فجعل الثلث حدًّا أعلى لتصرّف الموصي، حمايةً للورثة، ومنعًا للإضرار، وتحقيقًا للتوازن بين حقّ الموصي وحقّ المستحقين.
ومن هنا يتبيّن أن الوصيّة الواجبة بوصفها تنظيمًا مصلحيًا أحدثه وليّ الأمر، لا يجوز أن تُنقَل من باب الوصيّة إلى باب الفرائض، ولا أن تُعامل معاملة الإرث. فذلك يُفضي إلى إحداث وارثٍ لم يجعله الله وارثًا، وإبطال نظام الحَجْب، وتغيير الأنصبة، وهو ما يدخل في معنى التعدّي على حدود الله. لكن في الوقت ذاته، لا يصحّ إلغاء الوصيّة الواجبة أو تجفيفها بدعوى سدّ الذرائع، لأن الشريعة جاءت برفع الحرج، وجبر الضعف، وحماية اليتيم.
وقد قال تعالى: «وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ»، وقال سبحانه: «فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ». فإغلاق باب الإحسان بالكلية يُناقض روح التشريع، كما أن فتحه بلا ضابط يُناقض نصوص الفرائض.
ومن هنا، كان المنهج الصحيح هو الفصل الوظيفي الدقيق بين النظامين:.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة القبس
