تشهد منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وتحديدًا بحر الصين الجنوبي، تحولًا جذريًا في بنيتها الأمنية، فمنذ بضعة أعوام، تحول الموقع الدولي من مجرد ساحة للتنافس الاقتصادي أو المناوشات البحرية الروتينية، إلى مسرح عملياتي متقدم تتداخل فيه إستراتيجيات "القوة الصلبة" بين الصين مدعومة بقوة روسية خلال الأشهر الأخيرة وبين تحالف يضم أستراليا، اليابان، والفلبين، مدعومًا من الولايات المتحدة وبريطانيا.
مواضيع ذات صلة لم تعد الصين تكتفي بسياسة "الصعود السلمي" أو "إخفاء القوة وانتظار الوقت" التي ميزت عقود ما بعد "مهندس" الانفتاح الاقتصادي والتحديث في الصين الحديثة دنغ شياو بينغ، بل انتقلت بشكل صريح إلى إستراتيجية "الاشتباك متعدد الجبهات" الذي لا يصل إلى الحرب ولكنه لا يبتعد عن حافة الهاوية كثيرًا، حيث وجدت بكين نفسها في قلب عاصفة لا تهدأ، متزامنة مع حرب تجارية مع الولايات المتحدة وتصعيد ميداني غير مسبوق في "سلسلة الجزر الأولى"، واضطرابات في خطوط إمداد الطاقة الخلفية في ميانمار، وصراع متبدل على شرعيتها في هونغ كونغ.
إنّ السمة المميزة لهذه المرحلة هي الانتقال من "المنافسة" إلى "المواجهة المقننة"، حيث استخدمت الصين أدوات شبه حربية في بحر الصين الجنوبي، وما يشبه الحصار الاقتصادي والعسكري ضد تايوان، بينما واجهت في المقابل إستراتيجية أميركية تمثلت في "يوم التحرير" الاقتصادي الذي أعلنه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مع نشر منظومات صاروخية متقدمة في الفناء الخلفي للصين، فيما تؤثر أزمة "شعاب سابينا" المرجانية على طاولات التفاوض مع الفلبين في كوالالمبور.
لم يكن الصراع الاقتصادي بين واشنطن وبكين مجرد جولة أخرى من المفاوضات التجارية المتعثرة، بل كان حربًا اقتصادية شاملة استخدمت فيها التعريفات الجمركية كأسلحة دمار شامل اقتصادي، ما هدد بفك الارتباط التام بين أكبر اقتصادين في العالم.
لفهم التوتر الحالي، يجب النظر إلى تضارب الرؤى بين طرفي الصراع، فبينما ترى واشنطن وحلفاؤها أنّ تحركاتهم تهدف لضمان "حرية الملاحة"، ترى الصين أنّ هذه التحركات هي عسكرة لمنطقتها الحيوية واستجلاب لقوى خارجية لزعزعة استقرار آسيا.
الفلبين.. حرب المنطقة الرمادية تحول بحر الصين الجنوبي إلى ساحة لمواجهات يومية لم تصل إلى حد إطلاق النار، حيث ركزت الصين ضغوطها على الفلبين لإجبارها على التخلي عن مواقعها المتقدمة، فانتقل خلال العامين الماضي والحالي مركز الثقل في التوترات من "توماس شول الثاني" إلى "شعاب سابينا" (المعروف فلبينيًا باسم إسكودا)، واتبعت بكين تكتيكات "المنطقة الرمادية" حيث استخدم خفر السواحل الصيني سفنًا ضخمة لترهيب السفن الفلبينية الأصغر حجمًا. فيما وثقت تقارير ميدانية حوادث عدة حيث طوقت ثلاث سفن صينية سفينة دورية فلبينية لمدة أربع ساعات، مقتربة لمسافة خطيرة (300 متر) ومهددة باستخدام خراطيم المياه لإجبارها على التراجع، واستهدفت بشكل منهجي مهام إعادة التموين للصيادين والقوات الفلبينية المتمركزة، بهدف خلق ظروف معيشية مستحيلة تجبرهم على المغادرة طوعًا.
هذه البيئة الأمنية تميزت بثلاثة اتجاهات رئيسية لتحديد ملامح الصراع، أولًا، تحول الفلبين نحو تعزيز تحالفاتها العسكرية مع واشنطن. ثانيًا، الدور الأسترالي المزدوج الذي يوازن بين الشراكة الاقتصادية مع الصين وبين التزامات أمنية مع الغرب. ثالثًا، تعميق الشراكة الإستراتيجية الصينية الروسية كآلية لموازنة الحضور الغربي.
مع الفلبين، تجادل بكين بأنّ التوتر الحالي سببه تنصل مانيلا من "اتفاق النبلاء" الذي تم التوصل إليه مع الإدارة الفلبينية السابقة، والذي كان يهدف للحفاظ على الوضع الراهن وتقليل الاحتكاك، وتتهم مانيلا بإرسال مواد بناء وعسكرة إلى المواقع المتنازع عليها، وتصفه بـ "استفزاز" يخرق التوافقات الثنائية وإعلان سلوك الأطراف.
ويرى الكاتب والصحفي قاسم خليفة، أنّ بكين "تسعى من خلال هذه الأدوات إلى فرض إدارة فعلية للمياه المتنازع عليها، عبر الدوريات المستمرة، زرع العوائق العائمة ومنع الإمداد عن الحاميات الفلبينية، بالتوازي مع خطاب قانوني وإعلامي يكرس موقفها رغم حكم لاهاي الصادر في 12 يوليو 2016، الذي رفض إعلان الصين بحقوق تاريخية داخل الخط".
برزت منطقة "سابينا شول" كنقطة احتكاك رئيسية بين مانيلا وبكين، بينما اتهمت الفلبين الصين بالتصعيد، قدمت بكين رواية مغايرة، ركزت على حماية البيئة والسيادة بدلًا من الإشارة إلى محاولات متبادلة للتمدد والسيطرة، ليتحول تبادل الاتهامات بتدمير البيئة إلى معركة قانونية.
ويعتبر خليفة أنّ مانيلا "أمام هذا الضغط، أعادت في عهد بونغ بونغ ماركوس جونيور تموضعها بوضوح في المعسكر الأميركي، فوسعت اتفاق EDCA وفتحت مزيدًا من القواعد للقوات الأميركية في شمال البلاد، ما منح واشنطن نقاط ارتكاز متقدمة".
اتهمت الصين السفن الفلبينية العالقة أو المتمركزة في الشعاب بأنها هي السبب في التلوث وتدمير البيئة البحرية، واصفة وجود سفن خفر السواحل التابعة لها بأنه إجراء روتيني لفرض القانون في مياه تقع ضمن نطاق ولايتها القضائية، وذلك ردًا على ما تصفه بـ "الانتهاكات والاستفزازات" المستمرة من الجانب الفلبيني.
فيما استندت مانيلا إلى تقارير دولية تحدثت عن تدمير الصين لأكثر من 6,200 فدان من الشعاب المرجانية، متهمة بكين بممارسة "تخريب بيئي منهجي" عبر عمليات الردم وبناء الجزر الاصطناعية، مهددة برفع دعاوى دولية جديدة.
وأمام طبيعة هذا التوتر، يرى الباحث والصحفي صالح حديفة أنّ "ما يجري في منطقة الشرق الأقصى بين الصين ودول الجوار يبدو لافتًا، لكنه ليس بالأمر الجديد". ويشير إلى أنّ هذه الأحداث تندرج ضمن "المناوشات الباردة والاستفزازات المتبادلة، التي لطالما شهدت فيها المنطقة احتكاكات متقطعة لم تتحول إلى مواجهات حامية".
مضيق تايوان.. الخنق الإستراتيجي إذا كانت الحرب التجارية هي الوجه الاقتصادي للصراع، فإنّ مضيق تايوان كان مسرحًا لأخطر تحول في العقيدة العسكرية الصينية. في عام 2025، ابتعد الجيش الصيني عن سيناريوهات الغزو البرمائي السريع والمحفوف بالمخاطر، متبنيًا إستراتيجية أكثر تعقيدًا تعتمد على الحصار، وضرب البنية التحتية للطاقة، والحرب النفسية.
شكلت مناورات "رعد المضيق" التي أُجريت في أبريل 2025 نقطة تحول نوعية، ووفقًا لمتحدث عسكري، لم تكن هذه المناورات تهدف فقط للتدريب، بل لاختبار قدرات "السيطرة الإقليمية والحصار المشترك". وتميزت هذه العمليات بخصائص تكتيكية جديدة عدة، فلأول مرة، تضمنت المناورات محاكاة صريحة لضربات دقيقة ضد البنية التحتية للطاقة في تايوان. قامت وحدات المدفعية بمحاكاة ضربات ضد محطة "يونغ آن" للغاز الطبيعي المسال. هذا التطور يعكس إدراك بكين لـ "كعب أخيل" تايوان؛ فالجزيرة تعتمد بشكل شبه كلي على واردات الطاقة، واستهداف محطات الغاز يعني شل الاقتصاد والقدرة الدفاعية دون الحاجة لاحتلال الأرض.
كما تقدمت سفن البحرية الصينية إلى مسافة 24 ميلًا بحريًا من الساحل التايواني، وضغطت بشدة على المنطقة المتاخمة، في محاولة لكسر الحاجز النفسي والجغرافي وفرض أمر واقع جديد يعتبر المضيق "مياهاً داخلية".
ودمجت بكين وحدات خفر السواحل في العمليات العسكرية تحت مسمى "دوريات إنفاذ القانون"، ما يحول "الحصار العسكري" إلى إجراء "شرطي" محلي في نظر القانون الصيني، ويعقد خيارات الرد الدولي.
ترامب.. حرب "يوم التحرير" مع عودة دونالد ترامب للرئاسة، دخلت العلاقات الاقتصادية مرحلة من الصدام والتهدئة بآن واحد، في 2 أبريل 2025، أعلن ترامب ما أسماه "يوم التحرير"، فارضًا حزمة رسوم جمركية غير مسبوقة على الواردات الصينية، بدأت بـ10% وتصاعدت لتصل إلى معدلات مركبة بلغت في بعض الحالات 145%.
ردت الصين، بفرض رسوم وصلت إلى 125 بالمئة، كما فعلت "القائمة السوداء" للشركات الأميركية، بالإضافة إلى تقييد صادرات المعادن الأرضية النادرة (الغاليوم والجرمانيوم) الضرورية لصناعة الرقائق والمعدات العسكرية.
ولكن كما يبدو فإنّ هذه القرارات أدت إلى خسائر اقتصادية لكلا الطرفين، ما دفعهما للتوصل إلى "هدنة تجارية" في كوالالمبور في نوفمبر 2025، تضمن خفضًا متبادلًا للرسوم، وتعليق الصين للقيود على تصدير المعادن النادرة، مقابل تجميد واشنطن لزيادات جمركية جديدة، هذه الهدنة تعكس ما سماه محللون اقتصاديون بـ"توازن الرعب" الاقتصادي، حيث يدرك كل طرف قدرته على إلحاق الضرر بالآخر.
اليابان.. اختراق السيادة وتصاعد "معضلة الأمن" على الجبهة الشمالية، تحولت العلاقات الصينية اليابانية إلى حال من العداء الصريح، مدفوعة بما تصفه طوكيو بانتهاكات صينية للسيادة يقابله تعاون عسكري ياباني أميركي.
في 26 أغسطس 2024، كسرت الصين أحد الخطوط الحمراء غير المعلنة عندما اخترقت طائرة تجسس عسكرية المجال الجوي الياباني فوق جزر "دانغو" في مقاطعة ناغاساكي.
يختلف هذا الحادث نوعيًا عن الاختراقات السابقة (التي كانت تتم غالبًا بواسطة مسيّرات أو سفن). فإرسال طائرة عسكرية مأهولة لخرق السيادة الجوية لدولة كبرى مثل اليابان يحمل رسالة سياسية وعسكرية. اعتبرت طوكيو الحادث "انتهاكًا خطيرًا للسيادة" وتهديدًا لأمنها القومي، ما دفعها لتسريع وتيرة تطوير قدراتها الدفاعية ونشر صواريخ مضادة للسفن بعيدة المدى في الجزر الجنوبية، وانخرطت في مناورات "التنين الصامد" مع الولايات المتحدة في سبتمبر 2025، لتتضمن هذه المناورات نشر نظام "تايفون" الصاروخي في جزيرة "إيشيجاكي" وقاعدة "إيواكوني".
يمثل هذا النشر ما يوصف بأنه كابوس إستراتيجيّ للصين؛ فجزيرة إيشيجاكي تقع على مقربة شديدة من تايوان، ووجود صواريخ هجومية أميركية هناك يعني أنّ أيّ تحرك صيني ضد تايوان، سيواجه برد فوري من الأراضي اليابانية، ما يربط أمن اليابان بأمن تايوان بشكل لا فكاك منه، وهو ما سعت بكين طويلًا لمنعه.
ويقول خليفة إنّ للصين أسبابها التي دفعتها إلى هذه الخطوات، ومنها "وصف رئيسة الوزراء اليابانية لأي هجوم صيني على تايوان بأنه وضع يهدد اليابان، وهذا التوصيف يمنح الحكومة اليابانية غطاءً سياسيًا وقانونياً لتعزيز الإنفاق العسكري، تطوير الصواريخ متوسطة المدى والدفاع الجوي، والتنسيق المسبّق مع الولايات المتحدة على سيناريوهات طوارئ في مضيق تايوان"، وهو أمر ترفضه الصين وتحاول مجابهته.
ويضع حديفة ذلك في إطار "التنازع المستمر بين القوى الكبرى على ضفاف المحيط الهادئ، ومحاولات الولايات المتحدة الدائمة لإبقاء الصين في موقع الانشغال والضبط"، عازيًا ذلك إلى "قلق واضح لدى القوة الأميركية من تنامي القدرات الاقتصادية الصينية، والتقدم التكنولوجي المتسارع لبكين، وما قد يحمله ذلك من انعكاسات عسكرية وإستراتيجية".
"حصار" الهيمالايا بينما تركزت الأنظار على شرق آسيا، كانت الصين تواجه تحديات إستراتيجية معقدة على حدودها الغربية ومع القوى الإقليمية الجنوبية، فاستمرت الحدود الصينية الهندية في حال من التوتر المضبوط طوال عام 2025. ورغم غياب الحرب الشاملة، مارست بكين ضغوط تكتيكية مثل "إعادة تسمية" مناطق في ولاية "أروناتشال براديش" (التي تدعي الصين أنها جنوب التبت) واحتجاز مواطنين هنود من هذه المناطق بدعوى عدم صلاحية جوازات سفرهم الهندية، في رسالة رفض صريحة للسيادة الهندية، وفي منطقة في لاداخ، قام كلا الطرفين بتعزيز البنية التحتية العسكرية.
ويشير خليفة إلى أنّ "جولات التفاوض الحدودية تُستخدم كآلية لإدارة الأزمة أكثر من كونها مسار تسوية نهائية؛ إذ يتم الاتفاق على ترتيبات موضعية لفك الاشتباك أو إنشاء مناطق عازلة، مع بقاء الخلاف القانوني والسيادي مفتوحًا"، ويرى أنّ "بكين تحاول تخفيف حدة التوتر عبر استئناف الحوار رفيع المستوى، وتأكيد ضرورة عدم اختطاف العلاقات الاقتصادية والتجارية بالكامل بواسطة النزاع الحدودي، وفتح مجالات تعاون محددة.
غير أنّ نيودلهي تربط أيّ تطبيع بعودة الأوضاع إلى ما قبل 2020، وتواصل التقرب من الولايات المتحدة والرباعية، ما يفرض سقفًا محددًا على التهدئة، الصين مستعدة لإدارة النزاع ومنع انفجاره، لكنها غير مستعدة لتنازلات جوهرية، والهند لن تعود إلى وضع "الشراكة الطبيعية" ما لم تُعالَج جذور الخلاف الحدودي.
ورغم التوتر، فرضت الحقائق الاقتصادية نفسها بحلول نهاية 2025، حيث بدأت نيودلهي وبكين محاولات حذرة لتهدئة الأجواء عبر لقاءات دبلوماسية رفيعة المستوى، مدفوعة بتباطؤ الاقتصاد الصيني وحاجة الهند للاستقرار لتعزيز نموها.
أستراليا.. الاقتصاد مقابل الأمن تحافظ بكين على قنوات الاتصال مفتوحة مع كانبيرا، ورغم الخطاب الأمني المتشدد، تظل العلاقة بين البلدين محكومة بواقعية المصالح الاقتصادية المشتركة، حيث تسعى بكين للحفاظ على علاقات مستقرة مع شريك تجاري رئيسي.
في عام 2025، برزت الصين كشريك لا غنى عنه لطموحات أستراليا في مجال الطاقة المتجددة، بسبب هيمنة بكين على تقنيات الطاقة الشمسية وتصنيع البطاريات، ما يدفع كانبيرا للاعتماد على التكنولوجيا والاستثمارات الصينية لتحقيق أهدافها المناخية. ويدرك الجانبان أنّ "فك الارتباط" الاقتصادي ليس خيارًا واقعيًا، ما دفع بكين إلى رفع التعريفات الجمركية عن سلع أسترالية رئيسية مثل النبيذ، لتعكس الرغبة في تطبيع العلاقات التجارية رغم الخلافات السياسية.
يرى خليفة أنّ "ارتباط أستراليا اقتصاديًا؛ سببه اعتماد بكين على صادرات أسترالية من خام الحديد والليثيوم والمعادن الحرجة التي تغذي صناعاتها، بينما تعتمد كانبيرا على السوق الصينية في المداخيل وفرص الاستثمار ما يجعل كِلا الطرفين حريصًا على تجنب قطيعة اقتصادية شاملة رغم التوتر السياسي".
في المقابل، تبرز التحركات الأمنية والاستخباراتية الأسترالية على خطين، الأول عبر الانخراط في تحالف أوكوس AUKUS للحصول على غواصات تعمل بالطاقة النووية وقدرات متقدمة في الحرب تحت البحر، والثاني موقعها القديم في تحالف شبكة "العيون الخمس" التي تضم الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا ونيوزيلندا بالإضافة.
وتحاول كانبيرا الموازنة بخطاب مزدوج، وفق خليفة، "التأكيد أنّ التحالفات الدفاعية لا تستهدف بلدًا بعينه بل بيئة أمنية متدهورة، مع السعي لفصل مسارات الأمن عن التجارة بحيث تستمر الاستفادة الاقتصادية من الصين مع الانخراط في منظومة الردع الأميركية".
وبرز الدور العملياتي لأستراليا في مواجهة الصين بوضوح في عام 2025 من خلال التعاون الاستخباراتي والبحري، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من شبكة مخصصة لتتبع ورصد الجيل الجديد من الغواصات النووية الصينية، هذه الغواصات، التي طورتها الصين بمساعدة تكنولوجية روسية لتقليل بصمتها الصوتية، تمثل تحديًا كبيرًا، ويُعتبر الموقع الجغرافي لأستراليا وقدراتها البحرية عنصرًا حاسمًا في إبقاء هذه "الذئاب البحرية" تحت المراقبة في المحيطين الهندي والهادئ.
الجبهة الخلفية.. نقاط تضعف التنين تواجه بكين نقاطًا داخلية وتهديدات تواجه خطوط إمدادها الخلفية، ففي خضم استعراض القوة، فقد واصلت سياسة "القبضة الحديدية" في هونغ كونغ، مستخدمة قانون الأمن القومي والمادة 23 لتفكيك المجتمع المدني وجماعات المعارضة، وضع يؤكد أنّ بكين تنظر إلى هونغ كونغ كجبهة أمنية متقدمة لا تحتمل أيّ قدر من المعارضة.
يؤكد خليفة أنّ ملفًا آخر يحرك هواجس الصين، وهو ملف "مضيق ملقا الذي يمثل عنق زجاجة إستراتيجيًا للصين، إذ يمر عبره الجزء الأكبر من وارداتها البحرية من النفط والغاز، ما يجعل أيّ تهديد للمضيق بمثابة ضغط مباشر على أمن الطاقة والاقتصاد الصيني".
وفي حال تفجر نزاع مع الولايات المتحدة أو حلفائها، يمكن لتلك القوى ولو نظريًا تعطيل الملاحة أو تشديد الرقابة في ملقا، ما يفسر اهتمام بكين بتأمين خطوط إمداد بديلة وبناء سلسلة من الموانئ والقواعد على طول طرقها البحرية.
وهنا يمكن اعتبار ميانمار الممر الإستراتيجي للصين لتجاوز "مضيق ملقا"، وجاء الاستثمار في هذا الممر الذي يربط ميناء كياوكبيو على خليج البنغال بإقليم يونان عبر أنابيب نفط وغاز وطرق وسكك حديدية، كبديل بري جزئي لتجاوز ملقا، لكن بحلول أواخر 2025، واجه هذا الشريان خطرًا داهمًا، مع تصاعد الحرب الأهلية في ميانمار بعد انقلاب 2021، وامتداد القتال إلى مناطق يعبر فيها، ما كشف هشاشة هذا الخيار، فالخطوط البرية باتت مهددة بالانقطاع أو التخريب، كما أنّ قدرتها الاستيعابية أصلًا لا تعادل سوى جزء من الكميات التي تمر عبر ملقا، بعدما سيطرت جماعات متمردة (مثل جيش أراكان وجيش التحالف الديمقراطي المعارضين على أجزاء واسعة من المسار الذي تمر به الأنابيب في ولايتي شان وراخين، وجدت الصين نفسها في موقف حرج، حيث بات أمن طاقتها رهينة بيد جماعات مسلحة مناهضة للمجلس العسكري الحليف لها، ما اضطرها للدخول في مفاوضات معقدة مع الأطراف كافة لحماية استثماراتها، كاشفة عن صعوبة نفوذها في جوارها المباشر.
كما بدأت العمل لفتح خط من باكستان عبر ميناء جوادر، كذلك زيادة الاعتماد على خطوط أنابيب "قوة سيبيريا" لنقل الغاز والنفط الروسي برًا، ما يوفر مصدرًا آمنًا للطاقة بعيدًا عن البحرية الأميركية، وتوسيع منشآت تخزين النفط الإستراتيجية، بما في ذلك التخزين تحت الأرض، لضمان استدامة العمليات العسكرية والاقتصادية.
حلقة النار بحلول نهاية عام 2025، وجدت الصين نفسها محاطة بما يمكن وصفه بـ"حلقة نار" إستراتيجية، من الحرب التجارية الأميركية التي تهدد نموذجها الاقتصادي، إلى الحصار التكنولوجي والعسكري المتنامي من اليابان والفلبين وتايوان، وصولًا إلى نقاط الضعف الداخلية في جيشها وخطوط إمدادها.
إنّ السلوك الصيني، الذي جمع بين التشدد المفرط في تايوان وبحر الصين الجنوبي، والبراغماتية الحذرة في التجارة والحدود الهندية، يعكس دولة عظمى تشعر بوطأة الحصار. لم تعد بكين تسعى فقط لتغيير في النظام الدولي، بل باتت تقاتل للحفاظ على استقرار نظامها الداخلي ومصالحها الحيوية في بيئة عدائية متزايدة. ومع دخول المنطقة عام 2026، تظل احتمالات الصدام، سواء كان عرضيًا نتيجة احتكاك في البحر، أو متعمدًا كهروب للأمام من أزمات الداخل، هي السيناريو الأكثر ترجيحًا ورعبًا للاقتصاد والأمن العالميين.
هذا المحتوى مقدم من قناة المشهد
