الهدوء الذي يسبق العاصفة
كيف تُعيد واشنطن ترتيب خرائط المواجهة؟
الدكتور ثائر العجيلي
المقدّمة: حين يكون الهدوء جزءًا من الاستراتيجية
في السياسة، لا يكون الهدوء دائمًا مرادفًا للاستقرار، كما لا تُقاس التحولات الكبرى بضجيج القرارات أو صخب التصريحات. أحيانًا، أخطر اللحظات هي تلك التي تبدو عادية أو إصلاحية في ظاهرها، بينما تُخفي في عمقها إعادة ترتيب هادئة للمسرح قبل رفع الستار.
من هذا المنظور، لا يمكن قراءة إلغاء تفويضات الحرب الأميركية ضد العراق لعامي 1991 و2002 بوصفه نهاية نزاع قديم فحسب، بل كجزء من مشهد أوسع تُعاد فيه صياغة خرائط الاشتباك الإقليمي من دون إعلان حرب، ومن دون وعود سلام.
فالمنطقة الممتدة من جنوب لبنان إلى اليمن، مرورًا بسوريا والعراق وصولًا إلى إيران، تقف اليوم عند عتبة مرحلة جديدة: مرحلة تخفّ فيها الضوضاء السياسية، وتزداد فيها الحسابات الباردة، وتتحرّك فيها القوى الكبرى بخطوات أقل كلفة قانونية وأكثر مرونة ميدانية.
واشنطن، التي بدت لسنوات وكأنها تُدير الأزمات لا تحسمها، لا تنسحب من المشهد، لكنها أيضًا لا تتقدّم نحوه بالطريقة التقليدية. إنها تقلّل الاحتكاك، تُخفّف البصمة، تعيد توزيع الأدوار، وتنتظر. وفي الانتظار، تُصبح القرارات التي تبدو إصلاحية أو تقنية كإلغاء تفويضات قديمة إشارات تمهيدية لا يمكن فصلها عن ما قد تفرضه ساحات المواجهة المفتوحة.
هذه ليست مقالة عن قرار تشريعي، ولا عن انسحاب أو بقاء، بل محاولة لقراءة ما بين السطور، ورصد هدوء قد لا يكون إلا مقدّمة لعاصفة تُعاد فيها صياغة المواجهات على أساس ما قد يأتي، لا ما مضى.
المحور الأول: لماذا الآن؟ التوقيت بوصفه رسالة استراتيجية
في السياسة الدولية، لا تُقاس القرارات الكبرى بمضمونها فقط، بل بتوقيتها. فالسؤال الأهم ليس ماذا حدث، بل لماذا حدث الآن. وإلغاء تفويضات الحرب بعد أكثر من ثلاثة عقود لا يمكن عزله عن لحظة إقليمية مزدحمة بالتحولات.
واشنطن أسقطت غطاءً قانونيًا قديمًا في لحظة تتراجع فيها شهية المواجهات الواسعة، لكنها في الوقت نفسه لا تريد أن تُقيّد نفسها بنصوص وُلدت في سياق تاريخي مختلف ولم تعد تخدم حساباتها الجديدة. فالإلغاء هنا لا يعني تقليص الخيارات، بل تنظيف مسرح القرار استعدادًا لمرحلة تُدار فيها القوة بوسائل أكثر دقة وأقل كلفة.
كما يرتبط التوقيت بتحوّل داخلي أميركي، حيث بات المزاج السياسي أكثر حساسية تجاه الحروب المفتوحة وأكثر ميلًا إلى ضبط الصلاحيات الرئاسية. وهكذا يتحوّل القرار إلى رسالة مزدوجة: للداخل الأميركي بأن زمن التفويضات المفتوحة قد انتهى، وللخارج بأن واشنطن تُعيد ترتيب أدواتها لا مغادرة المسرح.
المحور الثاني : نتنياهو في واشنطن.. رفع السقف ومنع التسوية
لا تأتي زيارة بنيامين نتنياهو إلى واشنطن في سياق بروتوكولي أو دبلوماسي عادي، بل في لحظة دقيقة تسعى فيها الإدارة الأميركية إلى ضبط إيقاع الصراع، لا توسيعه، وإلى إدارة ما بعد الحرب في غزة بدل الانزلاق إلى حروب جديدة مفتوحة. ولهذا تحديدًا، تحمل الزيارة طابعًا ضاغطًا، لا تفاوضيًا. نتنياهو لا يأتي ليبحث عن تسوية، بل ليمنعها. ولا يسعى إلى الانتقال إلى المرحلة الثانية من خطة دونالد ترامب، بقدر ما يسعى إلى تعطيلها أو إعادة تعريفها على مقاس الرؤية الإسرائيلية الصلبة: نزع كامل لسلاح حركة حماس، وإنهاء أي قدرة عسكرية مستقبلية في غزة، قبل أي حديث عن ترتيبات سياسية أو مسارات طويلة الأمد.
في حسابات نتنياهو، لا تمثل المرحلة الثانية تهدئة استراتيجية، بل خطرًا مؤجّلًا. فبقاء أي بنية مسلّحة، مهما كانت محدودة، يعني أن الحرب لم تُحسم، وأن إسرائيل ستُجبر لاحقًا على العودة إلى الميدان بشروط أقل ملاءمة. لذلك، يتحرك نتنياهو في واشنطن من منطلق واحد: الحسم الآن، لا إدارة الصراع لاحقًا.غير أن ملف غزة ليس وحده على الطاولة. فالرسالة الأثقل التي يحملها نتنياهو تتجاوز الجنوب الفلسطيني، لتصل مباشرة إلى قلب المعادلة الإقليمية: البرنامج الصاروخي الإيراني.
من وجهة النظر الإسرائيلية، لم يعد التهديد الحقيقي محصورًا بالبرنامج النووي، بل بالشبكة الصاروخية الواسعة التي تمتد من إيران إلى حلفائها في لبنان وسوريا والعراق واليمن. شبكة لا تحتاج إلى قرار حرب شاملة كي تكون فاعلة، ولا إلى إعلان رسمي كي تُغيّر ميزان الردع.
هنا يلتقي خطاب نتنياهو مع لحظة إعادة التموضع الأميركية. فبينما تسعى واشنطن إلى تقليل الاحتكاك المباشر وتخفيف البصمة العسكرية، ترى إسرائيل أن هذه المرحلة تمثل نافذة زمنية حسّاسة: إمّا أن يُرفع سقف الضغط الآن، أو يُترك المجال لتراكم قدرات ستفرض لاحقًا كلفة أعلى. بهذا المعنى، لا تطلب إسرائيل ضوءًا أخضر لحرب شاملة، لكنها تدفع باتجاه تشديد قواعد الردع، وتوسيع هامش الاستجابة، ومنع أي مسار تهدئة قد يُفسَّر على أنه قبول بالأمر الواقع. وهي بذلك تختبر حدود المرونة.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من وكالة الحدث العراقية
