بعد كتابه "صورة الفتى بالأحمر" (1994) الذي تناول فيه تجربته النضالية في اليسار اللبناني أصدر المفكر فواز طرابلسي كتاباً جديداً وعنوانه "زمن اليسار الجديد، صورة الفتى بالأحمر 2". أي يسار جديد يسعى اليه فواز طرابلسي نظرياً وسياسياً؟ #نكمن_في_التفاصيل

لعل كتاب المفكر والمؤرخ فواز طرابلسي "زمن اليسار الجديد، صورة الفتى بالأحمر 2" هو من الكتب السياسية المهمة التي تناولت تجربة اليسار في لبنان منذ نهاية الخمسينيات. مؤلف الكتاب مفكر ومثقف ومؤرخ ومناضل، عاش المرحلة من الداخل بمفاصلها التاريخية، وكذلك تجارب اليسار اللبناني والعربي، لكنه بقي ثابتاً على مواقفه.

سبق لطرابلسي أن كتب عن تجربته اليسارية من قبل في كتابه "صورة الفتى بالأحمر"، لكنه لم يتعمق فيها. وعليه، فإن "زمن اليسار الجديد" تتمة "صورة الفتى بالأحمر"، لذلك كان عنوانه الفرعي "صورة الفتى بالأحمر 2". ويقول "هذا الكتاب شهادة عن تجربتي في تنظيمين من تنظيمات اليسار الجديد ، لبنان الاشتراكي و منظمة العمل الشيوعي . هي مساهمة تكمل ما ورد في كتابي "صورة الفتى بالأحمر" (1994) تنضم إلى كتابات أسميتها مساهمات في "تصنيع التجارب" التي عشتها خلال أكثر من نصف قرن في ثورات وحركات وتنظيمات اليسار الماركسي اللبناني والعربي" (ص 9(.

لم يكتفِ طرابلسي بالسرد، بل توقف لمراجعة محطات ومنعطفات أساسية في الحياة العامة في لبنان والمنطقة، ولم يُعفِ مواقفه وممارساته من النقد الذاتي (ص 343). وعليه، فالكتاب بمنزلة شهادة صادقة على تلك الحقبة، إذ كان الكاتب صريحاً إلى أبعد الحدود، حتى في نقده الذاتي وتقويم دوره والإعلان عن ذمته المالية. "قدمتُ في صفحات هذا الكتاب كشفَ حساب بوضعي المالي خلال العمل الحزبي. ضميري مرتاح من هذه الناحية" (ص 346).

الأدب بدايةً

الكتاب الجديد (دار رياض الريس)

دخل طرابلسي السياسة من باب الأدب، فلون كتاباته حتى السياسية منها بنفحة أدبية حالت دون أن تتحول إلى كتابات جافة لا حياة فيها ولا متعة في قراءتها. "يمكنني القول إنني جئتُ إلى اليسار والاشتراكية من قراءاتي الأدبية أكثر من التحصيل الفكري الذي سيأتي لاحقاً" (ص 25). وتفتح وعيه السياسي على العدوان الثلاثي على مصر. فـ"العدوان الثلاثي على مصر حدث تأسيسي في وعيي والتزامي" (ص 22)، ومن ثم على ثورة الجزائر التي أيدها بقوة. انتسب طرابلسي إلى صفوف "حزب البعث" في مدينة مانشستر في بريطانيا، تحديداً إلى الجناح الماركسي في الحزب، إذ كان طرابلسي ميالاً إلى الاشتراكية أكثر منه إلى فكرة القومية العربية (ص 40). لذلك كانت الاشتراكية معيار الحكم على الأحزاب والتجارب، "حاكمنا الناصرية والبعث من منظار بناء الاشتراكية" (ص 51(. حتى الثورة الجزائرية، في نظر طرابلسي، لم تكُن حركة تحرر وطني فحسب. "إن الثورة الجزائرية لم تقُم من أجل الحرية فقط، بل من أجل الخبز أيضاً" (ص 29(. ثم كان لنكسة عام 1967 وقع الصدمة على الجميع. كانت لحظة فارقة في تاريخ العرب ولبنان وفي تاريخ اليسار اللبناني. "1967 هي تلك اللحظة، كانت نهاية عبدالناصر وآخر نظام حركات التحرر الذي عملياً سقط بسبب حرب شنت عليه بالواسطة، في حين كانت الولايات المتحدة تنظم الانقلابات في هذا العالم". (المقابلة مع مجلة "رمان").

جاءت فكرة الكتاب من الأسئلة التي وجهتها إلى طرابلسي الباحثة مريم يونس التي كانت تُعد أطروحة دكتوراه عن "اليسار الشيوعي في لبنان". من أبرز المواضيع التي تناولتها يونس النتاج الفكري لمجموعة "لبنان الاشتراكي"، والمشاركة في الحرب الأهلية، وأسباب مغادرة العمل الحزبي في منتصف الثمانينيات (ص 10).

مجموعة "لبنان الاشتراكي" (السنوات الأُوَل 1965-1968)

ما يميز مجموعة "لبنان الاشتراكي" نشاطها الفكري الثقافي الذي يتمحور حول الاشتراكية. فكانت بمنزلة ورشة فكرية لقراءة الفكر الماركسي والتراث الماركسي من نصوصه الأصلية والنصوص الأساسية التي كتبت حوله، إذ كان المقصود "تعريب الماركسية " (ص 52). وهذا ما لم ينتبه إليه مَن تناول "لبنان الاشتراكي" بالبحث والدرس، أي لم ينتبه إلى أهمية الإنتاج الفكري (ص 62). في هذا السياق يذكر طرابلسي في الصفحة (53) من كتابه بعضاً من القراءات التي كانت تهتم بها مجموعة "لبنان الاشتراكي"، "قرأنا وشرحنا وحللنا البيان الشيوعي وكتابات ماركس الفرنسية و الأيديولوجية الألمانية ، ومن إنغلز أصل الأسرة ، ومن لينين مصادر الماركسية الثلاثة و ما العمل؟ ، كذلك قرأنا مؤلفات في تاريخ الثورتين الروسية والصينية وفكر ماو تسي تونغ. ودرسنا مؤلفات هنري لوفيفر وجورج لوكاش ولوي ألتوسير ونيكوس بولانتزاس وإسحق دويتشر وفرانز فانون. وقرأنا عن كتاب رأس المال لماركس في تأويل لوي ألتوسير، وفي كتاب إرنست مانديل الثمين عن الاقتصاد الماركسي، أكثر مما قرأنا في "رأس المال" بأجزائه الثلاثة. [ ]. وكان لفكر أنطونيو غرامشي مكان خاص في التحصيل والدراسة" (ص 53). ويضيف ""بالنسبة إلي، لازمتني رفقة غرامشي ولا تزال" (ص 54).

المفكر فواز طرابلسي (صفحة فيسبوك)

لكن يحق لنا التساؤل، كيف يمكن مجموعة صغيرة من المثقفين، مهما كانت رائدة، أن تحلم بأن تجعل لبنان، ذلك البلد الاستثنائي بتركيبته السكانية وموقعه الجغرافي، بلداً اشتراكياً؟، لا شك في أن الحس الأدبي الإنساني قد طغى عند هؤلاء الرفاق الاشتراكيين على الحس الاجتماعي السياسي.

الحرب الأهلية اللبنانية

وُلدت "منظمة العمل الشيوعي" من اندماج "لبنان الاشتراكي" و"الاشتراكيين اللبنانيين". لكن سرعان ما تعرضت المنظمة لانشقاقات واعتراضات واستقالات كثيرة أضعفتها، لا سيما أنها كانت في منافسة شديدة مع الحزب الشيوعي اللبناني. فكانت المنظمة والحزب الشيوعي ركنَي "اليسار الجديد". لم يتوقع طرابلسي ورفاقه من اليسار أن تندلع الحرب الأهلية اللبنانية. لم يتوقعوا أن يتحول النضال السياسي السلمي إلى صراع دموي عسكري بين اللبنانيين. يقول طرابلسي في مقابلته بعد صدور الكتاب "لم نتوقع الحرب. نعم، لم نتوقع الحرب. [ ]. لم نتوقع أن ينتهي التوتر السياسي إلى اقتتال واسع النطاق على قسم كبير من الأرض يدوم سنتَين، نعم لم نتوقع الحرب، بالتالي أول شيء يجب تسجيله، لماذا حدثت الحرب؟!".

هذه المشاركة الواسعة في الحرب الأهلية اللبنانية كانت مدار مراجعة دائمة لدى طرابلسي بغض النظر عمن تقع عليه مسؤولية الحرب. لذلك يرى أن من يشارك في حرب أهلية، لا سيما من موقع المسؤولية، "لا يحق له أن يقول إن ضميره مرتاح. سكتُ عن تجاوزات وجرائم في الحروب اللبنانية، كما في مسار المقاومة الفلسطينية وحكم اليسار في جنوب اليمن، كان لزاماً علي معارضتها والتنصل منها واستخلاص السلوك العملي بناءً عليها، ولم أفعل" (ص 346). وعليه، يتساءل طرابلسي اليوم، هل كنا نمتلك الحق بألا نرى ولا ندرك؟.

كتاب آخر (دار الريس )

بعد اغتيال كمال جنبلاط عام 1976، بدأ اليسار الجديد يتفكك بسرعة. على صعيد "منظمة العمل الشيوعي"، يوضح الكاتب أن تعيين محسن إبراهيم أمينًا عاما لـ"لحركة الوطنية"، كانت له مضاعفاته السلبية على أكثر من مستوى، إذ أسهم في استفراده بقيادة الحركة الوطنية مهمشاً الأمناء العامين لسائر الأحزاب. كذلك شجع على "انتقال" كوادر المنظمة إلى مؤسسات "الحركة الوطنية"، السياسية والعسكرية...، مما أسهم في "تحلل الروابط التنظيمية" للمنظمة وتفككها، فبهتت شخصية المنظمة "المستقلة الاشتراكية اليسارية والعلمانية والديمقراطية". لذلك بعد نحو 15 عاماً من التفرغ الحزبي، قرر طرابلسي طلاق المنظمة طلاقاً ديمقراطياً، فسافر إلى أسرته في باريس لمتابعة تحصيله العلمي. لم تنجح محاولات الحوار والنقاش في ثنيه عن قراره، إذ بين أزمة المنظمة التي غدت "ضحية" وجودها في "الحركة الوطنية اللبنانية"، فانطمست "هويتها" وغابت عنها "الهيبة الفكرية" وهيمنت القيادة الفردية، والأهم، في نظره، أنه "فقد الأمل" في "إعادة البناء".

المثقف العضوي والمثقف الهامشي

كان طرابلسي وما زال مثقفاً عضوياً بالمعنى الذي اخترعه غرامشي، حتى لو استقال منذ عقود من منظمة العمل الشيوعي. وصحيح أنه استقال من المنظمة، لكنه لم يستقِل من العمل السياسي واليسار السياسي، إذ ما زال يسعى إلى تحقيق نوع من الاشتراكية في لبنان والعالم العربي. فطرابلسي مثقف، يعنيه ما يجري في المجتمع والعالم فيتدخل في ما لا يعنيه. إنه مثقف عضوي، أي مثقف منتمٍ إلى حزبه أو منظمته أو "يساره الجديد". لم يتخلَّ يوماً عن انتمائه بعكس ما ذهب إليه الفيلسوف اللبناني الراحل موسى وهبه الذي أيقن أن الحرب حررته من كونه مثقفاً عضوياً ليصير مثقفاً هامشياً. يقول وهبه "هناك نوعان من المثقفين، النوع الطاغي الذي أسميه المتذهن العضوي، بحسب تعبير غرامشي أي المثقف الذي يركب ثقافته على مشروع سياسي [ ]. هذه هي الثقافة المنتمية . أنا حالياً في الثقافة اللامنتمية ، إن صح التعبير، يعني غير العضوية". فشل المثقف العضوي، في رأي وهبه، لأن الطوائف في لبنان أثبتت رسوخها المزمن أثناء الحرب الأهلية وبعدها. حتى الأحزاب اللبنانية تحولت إلى نوع من الطائفة (السفير، الأحد 16/1/1983). طبعاً لا يوافق طرابلسي على ما قاله وهبه. لذلك ما زال يعمل على تجديد اليسار اللبناني والعربي "لإنتاج رؤية مستقلة وراهنة نحو تجديد يسار لبناني وعربي وتوحيده" (ص 346).

الماركسية العملية

على رغم كل الانتقادات التي وجهت إلى الماركسية، لا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومجموعته الاشتراكية، ما برح فواز طرابلسي متمسكاً بالماركسية وبما أسماه "الماركسية العملية". في هذا السياق يقول "كما يتبين من صفحات هذا الكتاب، لا يزال مرجعي الفكري الأول هو الماركسية، أي منهج المادية التاريخية، [ ] أقول المرجع الأول، لا الأوحد، بل نقطة الانطلاق الرئيسة في الجهد النظري، ولا نهاية المطاف. والماركسية، في وجه أساسي منها، هي نظرية المعرفة النقدية للرأسمالية" (ص 345). وعن الماركسية العملية يقول "أسترشد بما أسميه الماركسية العملية ، أي ما يمكن استنسابه من التراث الماركسي، بكل موارده ومدارسه وتياراته، من مفاهيم وتجارب لإنتاج معارف عن السلطة والاقتصاد والمجتمع في لبنان وبلداننا العربية. لست من دعاة العودة إلى ماركس والمفكرين الأوائل، لكني أدعو إلى عدم التخلي عنهم باسم تأويلات لاحقة. وأغتني في هذا الجهد بكل جديد في العلوم الاجتماعية والإنسانية" (ص 345). ويضيف "لقد مارست الماركسية، فكراً وعملاً، أكثر بكثير مما كتبت في الماركسية" (ص 345-346).

غالب الظن أن طرابلسي تمسك بالفتوحات الفكرية التي تميز بها ماركس في عالمي الفلسفة والاقتصاد، أي بما بقي خالداً في فلسفة ماركس ويحمل بصمته. لذلك تجاهل ما نشأ حول ماركس من تأويلات وقراءات أيديولوجية تَنسب نفسها إلى ماركس، كما تجاهل ما يمكن حسبانه بمنزلة قشور في ما أبدعه ماركس فلسفياً واقتصادياً كتنبؤاته عن نهاية الرأسمالية وفنائها أو حديثه عن نهاية صراع الطبقات عندما تحل الشيوعية وتتفكك الدولة وينشأ مجتمع الأحرار.

عن فتوحات ماركس الفكرية يقول مشير باسيل عون في مقالته عن ماركس "لا بد من الاعتراف بأن ما يميز الحدس الماركسي ربطُ الحياة بأوضاعها التاريخية، وربطُ الوعي بالنضالات التحررية، وربطُ العالم بشروط الممارسة التاريخية. [ ] جل اعتنائه النظرُ النقدي في شروط حياتنا الواقعية. لذلك أفضى النقد هذا إلى بناء فلسفة عملية لا تكتفي بتناول العمل غاية بحد ذاته، بل كذلك موضوعاً للتحليل العلمي ووسيلة لاكتساب المعرفة الموثوقة. ذلك بأن دعوة الفلسفة تكمن في إدراك شروط تحول العالم الحي الواقعي الملموس".

نهاية الفلسفة وبداية النضال التغييري

نبه ماركس إلى فساد الطبقة البرجوازية التي جمعت أموالاً طائلة من استغلال الطبقة العمالية، ودعا إلى تغيير الوضع المجحف القائم ووضع آليات لذلك. لذلك قال كلمته الشهيرة "إن الفلاسفة لم يفعلوا إلا أن فسروا العالم بطرق مختلفة، إنما المطلوب تغييره". وعليه، رأى ماركس أنه آن الأوان لنهمل المسائل التأملية المحض التي لا تطعم جائعاً ولا تُغني فقيراً ونهتم بالمسائل العينية العملية، تحديداً الاقتصادية منها. مع ماركس أصبحت الفلسفة تجسيداً للحكمة العليا، ولم تعُد مجرد محبة لها، أصبحت فعلاً عملياً، وبالأخص فعلاً سياسياً جليلاً من خلال إنشاء الأحزاب الشيوعية التي ستقود النضال والصراع مع الطبقة البرجوازية وتجسد الفلسفة في الواقع. هكذا تنتصر الطبقة العمالية، فننتقل من المرحلة الرأسمالية إلى المرحلة الاشتراكية، ومن ثم في نهاية.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من اندبندنت عربية

منذ ساعة
منذ 10 ساعات
منذ 11 ساعة
منذ 8 ساعات
منذ 10 ساعات
منذ 5 ساعات
اندبندنت عربية منذ 15 ساعة
قناة العربية منذ 9 ساعات
قناة روسيا اليوم منذ 7 ساعات
قناة روسيا اليوم منذ 16 ساعة
قناة العربية منذ 8 ساعات
قناة روسيا اليوم منذ 3 ساعات
قناة العربية منذ 12 ساعة