بعد خسارة المرشحة الديمقراطية كاملا هاريس الانتخابات الرئاسية أمام خصمها الجمهوري دونالد ترامب، يعود إلى الواجهة من جديد موضوع عدم السماح لامرأة بالوصول إلى البيت الأبيض في أميركا، خصوصا أن خسارة هاريس جاءت بعد تجارب كثيرة حاولت فيها نساء أميركيات الوصول إلى القيادة.
في الوقت، الذي استطاعت فيه النساء الوصول إلى أعلى درجات الحكم في أوروبا منذ عقود مضت مثل مارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا في ثمانينات القرن الماضي، وأنجيلا ميركل أول امرأة تتولى منصب المستشار في ألمانيا، وقادت البلاد لمدة 16 عامًا (2005-2021)، ما زال يعارض بعض الأميركيين أن تترأسهم امرأة.
تركيبة المرأة الفيزيولوجية على الرغم من التحولات الكبيرة التي تشهدها الطريق إلى البيت الأبيض والتي كان على رأسها وصول رئيس من أصل إفريقي (باراك أوباما) وتمكنه من الفوز في ولايتين، كذلك تعيين نائبة للرئيس الأميركي (كاملا هاريس) من أصول هندية إلا أن التغيرات الأكثر جدلا هي وصول امرأة للحكم لم تتم بعد.
وتلعب الأدوار التقليدية للمرأة كأم وزوجة دورا مهمة في نظرة المجتمع الأميركي للمرأة كقائدة، في وقت يرى فيه بعض الأميركيين أن النساء دورهن الأول هو في الأسرة، وذلك من منطلق أن التزاماتهن الأسرية قد تتعارض مع التزامات القيادة السياسية.
وفي مقابلات مع صحيفة "واشنطن بوست"، أعرب العديد من الناخبين عن تحيز لا شعوري وتمييز جنسي صريح، فهم قلقون من أن تكون الرئيسة الأنثى عاطفية للغاية، أو أنها ستكون ضعيفة وتتعرض للخداع من قبل القادة الذكور على المسرح العالمي. حتى أن البعض قالوا إنهم لا يستطيعون تخيل تسليم الرموز النووية لشخص يخشون أن يصبح متقلب المزاج أثناء الحيض.
وقالت إحدى النساء للصحيفة الأميركية: "لا أشعر بأن المرأة تنتمي إلى مقعد الرئاسة"، مضيفة أن "النساء يفكرن بقلوبهن في الغالب وليس بعقولهن، وهذا ليس ما نحتاجه الآن".
وكان أحد الناخبين الذكور في المجموعة أكثر صراحة، حيث وصف الرئاسة بأنها "وظيفة الرجال". وقال: "يتعين عليهم اتخاذ قرارات صعبة لا يمكن أن تنطوي على أي مشاعر"، وأضاف ضاحكًا أنه لا يريد أن تتولى قائدة عامة مسؤولة عن الرموز النووية إذا كانت "تمر بيوم سيئ، أو في ذلك الوقت من الشهر، أو أي شيء آخر".
لكن على النقيض من ذلك، فإن العديد من استطلاعات الرأي تشير إلى أن العقلية الأميركية ليست موحدة تمامًا، حيث إن قبول امرأة كرئيسة أصبح أكثر انتشارًا بين الأجيال الشابة والمتعلمة، وذلك بالتزامن مع تزايد عدد النساء في المناصب القيادية الأخرى مثل الكونغرس وحكومات الولايات.
وفقاً لاستطلاع أجرته وكالة أسوشيتد برس ومركز نورك لأبحاث الشؤون العامة في منتصف سبتمبر، فإن 30% من الناخبين المسجلين يعتقدون أن جنس هاريس أضرّ بفرصها.
سيدة في البيت الأبيض؟ خلال العقود الأخيرة، شهدت الولايات المتحدة تغييراً من ناحية وصول المرأة إلى مناصب سياسية، حيث تشغل النساء الآن 25% من مقاعد مجلس الشيوخ و27% من مقاعد مجلس النواب، كذلك 12 امرأة يشغلن منصب حاكم ولاية.
لكن على الرغم من ذلك، لم يسبق لأي امرأة أن قادت الولايات المتحدة على مر التاريخ. على الرغم من وجود عشرات المرشحات لخوض الانتخابات الرئاسية سواء من الحزبين الرئيسيين الديمقراطي والجمهوري أو الأحزاب الصغيرة الأخرى، لكن المرشحتين هاريس وقبلها زميلتها في الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون هما الوحيدتان اللتان نجحتا في بلوغ السباق النهائي، لكنهما خسرن.
وحول سؤال ما إذا كانت الدولة العميقة في الولايات المتحدة تسمح للمرأة بقيادة البلاد، يقول الأكاديمي في جامعة كينيساو جورجيا إسحاق أنديكيان، إن "المسألة ليست ما تريده الدولة العميقة في أميركا بقدر ما هي مسألة صراع بين العقليّة والذهنيّة الأميركيّة المحافِظَة وتلك الليبراليّة. فالأولى يطغى عليها السلوك الرجولي والدور التقليدي للرجل في العائلة والمجتمع في حين يطغى على الثانية السلوك النَسَوي ودور المرأة الريادي في (مفهوم جديد) للعائلة والمجتمع بما في ذلك مجتمع الـ LGBTQ".
ويشير تقرير لمركز "بيو" للأبحاث إلى أنه رغم تزايد نسبة تمثيل النساء في الكونغرس فإنه لا يزال 53% من الأميركيين يعتقدون أن هناك عددا قليلا جدا من النساء في المناصب السياسية العليا بالولايات المتحدة، كما يرى كثيرون عقبات كبيرة أمام المرشحات للوصول إلى هذه المناصب مقارنة بالرجال.
بعد تاريخي فعلى النقيض من أوروبا، لا ينتمي اليمين المتطرف في الولايات المتحدة إلى حزب سياسي، وبالتالي فإن المعارضين لوصول المرأة لمناصب قيادية من اليمين يمكنهم التعبير عن ذلك بحرية. على عكس أوروبا التي يوجد فيها أحزاب يمينة، والتي لا تستطيع "معاداة المرأة" كونها بذلك ستخسر أصوات النساء.
يعتبر منسق العلاقات العربية الأوروبية في البرلمان الألماني عبد المسيح الشامي في حديث إلى منصة "المشهد" أن "الأمر له بعد تاريخي حديث يعود بالضبط لفترة ما بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، حيث إنه تقريبا أغلب الرجال في أوروبا قتلوا بسبب الحروب، وذلك لأن الحروب قائمة على الرجال، وبالتالي كان هناك نقص حقيقي بالرجال في أوروبا، وهذا ما دفع النساء بعد الحرب العالمية الثانية تحديدا أن تأخذ مكان الرجال، وتعيد بناء أوروبا (إلى جانب بعض الرجال)".
ويقول الشامي إن "الأمر ليس هكذا في أميركا التي لم تخسر عددا كبيرا من رجالها في أوروبا، وبالتالي ظلّ المجتمع وفق التراتبية والهيكلية، وتوزيع الأدوار بشكلها التقليدي المتوارث عبر التاريخ في الولايات المتحدة. ما زالت الذكورية التقليدية التي سيطرت ولا تزال تسيطر على كثير من المجتمعات موجودة بشكل كبير في أميركا".
ويضيف الشامي أن "واقع الحال الذي أفرزته الحرب العالمية الثانية في أوروبا فرض على المرأة لعب هذا الدور، علما أن المرأة الأوروبية تاريخيا مدللة جدا، وكانت ليست تلك المرأة التي يمكن أن تلعب دور الرجل بشكل أو بآخر".
وتابع "قضية المهاجرين الأوروبيين إلى أميركا الذين كانوا في غالبيتهم من المتشددين المتعصبين دينيا بشكل أو بآخر، وبالتالي العامل الديني أيضا لعب دورا مهما. كما أن أوروبا بعد الثورة الفرنسية والصناعية وطفرة الحريات أو ما يسمى بثورة تحرر المرأة لعبت دورا أساسيا بالابتعاد عن تعاليم الكنيسة المحافظة إلى حد كبير".
في السياق، يشرح الأستاذ ومدير الإدارة السياسية في جامعة جورج واشنطن تود بيلت في تصريح إلى منصة "المشهد" أنه "لا يوجد سبب يمنع المرأة من شغل منصب رئيس الولايات المتحدة. فقد تولت النساء رئاسة الدولة في جميع الديمقراطيات الصناعية الأخرى تقريبًا. ولا يزال هناك قدر كبير من التمييز الجنسي في الولايات المتحدة والشوفينية الذكورية".
ويبين بيلت "تواجه النساء صعوبة في الحملات الانتخابية للمناصب العامة لأنه من أجل القيام بذلك يتعين على المرشحين إظهار التفوق بطرق لا يُنظر إليها تقليديًا على أنها أنثوية. وهذا يجعل من الصعب على النساء الفوز بالمناصب العامة، ويشعر كثير من الناس بالقلق من وجود تمييز جنسي كامن قد يكون السب وارء خسارة هاريس".
(المشهد )
هذا المحتوى مقدم من قناة المشهد