ميشيل فوكو كان كاتبًا مهجنًا، يستند في كتاباته إلى كل أنواع المصنفات والتاريخ، وعلم الاجتماع، والعلوم السياسية، والفلسفة، ولكنه يتجاوزها، وبالتالي فهو يضفي عامدًا على أعماله قدرًا من العالمية جعلها، في آن واحد، نيتشوية وأحدث من الحداثة نفسها: فهي ساخرة، ومتشككة، وعنيفة في راديكاليتها، وهي أيضًا، مضحكة ولا أخلاقية في إطاحتها بكل ما هو تقليدي ملتزم، وبالأصنام وبالأساطير ولأكثر كتابات فوكو لا -ذاتية جرس خاص، فليس من قبيل المصادقة أنه برع في فن الإدلاء بالحديث الصحفي كشكل من الأشكال الثقافية.
ولذلك، فالفواصل القديمة، والمسلم بها بين النقد والإبداع لا تنطبق على ما كتبه، وقاله فوكو، كما أنها لا تنطبق على مباحث نيتشه، ولا على مذكرات السجن الغرامشي، ولا على مصنفات بارت بعامة، ولا على عزف غلين غولد وأدائه الشفهي، ولا هي تنطبق على مقاطع أدورنو النظرية، أو مقاطع سيرته الذاتية، ولا على أعمال جون بيرغرا بوليز أوغودار. وهذا لا يعني بأية حال من الأحوال، مثلا، أن كتابات فوكو في التاريخ تعوزها الدقة، ولكن المقصود، مثلها في ذلك مثل أعمال من ذكرت أنفًا، أنها في شكلها، وموضوعها، تتطلب انتباهًا رئيسًا باعتبارها أداءً آنيًا واعيًا، وجامعًا لعدة أشكال أدبية، وزاخرًا بالمعرفة والاستعارات والابتكار، وهكذا يتكرر عدد من الموضوعات في أعمال فوكو، من البداية إلى النهاية، برغم أن لتطوره الفكري ثلاث مراحل مستقلة على الأقل لنبدأ بموضوعات سهل فهمها إن نظرنا إليها ككوكبة من الأفكار، لا كأشياء خامدة، إن كل ما كتبه وبحثه فوكو يتسم بسلسلة مستمرة من التعارضات حاول أن يصفها في اركيولوجيته الشهيرة، وفي علم أنسابه النيتشوي. ويبدو وكأنه ينظر، منذ البداية إلى الحياة الاجتماعية الأوروبية باعتبارها صراعًا بين كل ما هو هامشي ومتجاوز ومختلف من ناحية، وبين كل ما هو مقبول وطبيعي واجتماعي ومطابق، من ناحية أخرى.
وتتمخض عن هذا الصراع مواقف مختلفة، تتطور فيما بعد لتصبح مؤسسات للتقويم والقهر تتشكل منها المعرفة، وكثيرًا ما لجأ فوكو في تصوير ذلك إلى استعارات ترتبط بالمخاض، وبعلم الأحياء في نظرته للأمور، وهكذا ينشأ المستوصف، والسجن، وتنشأ مستشفيات الأمراض العقلية، والمؤسسات الطبية، وعلم العقوبات، وفقه التقنين، وهي بدورها تتمخض عن المقاومة التي تحدث تغييرًا في هذه المؤسسات، فتتحول هذه المستشفيات وهذه السجون إلى مصانع تنتج المرض والانحراف، وهي نظرة سوداء، ولكنها ثاقبة، عبر عنها فوكو في مرحلة متقدمة من عمره.
ويستطرد فوكو فيقول إن السلطة تتغلغل في جانبي السلسلة، في المؤسسات.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الوطن السعودية