لا أبالغُ إن قلتُ إن الكاتب المؤرخ الناشر عبدالله بن علي الماجد من خيرة متمثلي الثقافة في حياته وعلاقاته، وهذه الأناقة في مظهره، التي عهدتها منذ ثلاثة عقود، تنبئ عن مخبر أنيق، ولعلّي وأنا أُعدّ لهذا الحوار غلبني حُسنُ ظنّ بالظفر بالموافقة، بحكم قسمات وجهه الموحية بسخاء روحه، وكنتُ أتهيّب أن أطرح سؤالاً يزهّده في القبول بالفكرة، إلا أن اتصاله وإبداء انطباعه الجيّد عن المَحَاوِر أكدّا أن حُسنَ الظنّ في محلّه، وهنا حوار حاول أن يجمع ويوثّق خاصاً وعاماً، فإلى نصّه..
هل يشعر المثقف يوماً ما بالتشبّع، ويزهد في الحضور والمشاركة والأضواء؟
نعم إذا كانت المواسم الثقافية مثل حفلات الزواج والمناسبات التي تعج بالأدعياء والمتطفلين والمنافقين، ألا تتذكر في الزمن السالف لأسلافنا أن مناسبات إلقاء الجديد من الشعر كان حولياً، كل عام مرة. كان سوق عكاظ عيداً للشعر كل عام.
ألا تخشى على الوعي من مخرجات مواقع التواصل الاجتماعي؟
قال القدماء: كل إناءٍ بما فيه ينضح، والحقيقة أن بعض ما تُخرجه منصات وأجهزة التواصل الرقمية في أغلبه، يشبه إلى حدٍّ ما، ما تخرجه المصارف، التي تصرف الفضلات.
ماذا تبقى من الثقافة الصلبة؟
أحب أن أسميها الثقافة الجادة، أو العميقة بشكل مباشر، ستبقى الثقافة الجادة أو العميقة ما بقي وعي الإنسان يعمل، ويدرك الأشياء.
متى بدأ التعلق بالثقافة والاهتمام بالكتابة؟
الغريب أنه لا يوجد في محيط الأسرة من له اهتمامات بالثقافة أو القراءة أو جمع الكتب، هكذا وجدت نفسي بعد أن التحقت بالعمل الوظيفي في دار الكتب الوطنية بالرياض؛ التي تشرف عليها إدارة المكتبات العامة بوزارة المعارف حينذاك، كنت أقضي معظم وقتي كل يوم بين الكتب والدوريات، كانت تضم -حينذاك- أكثر من عشرة آلاف عنوان (كان ذلك في أوائل السبعينيات الميلادية)، أعتقد أنني أحطت بمعظم محتويات تلك العناوين، وعرفت معظم الدوريات التي كانت تصدر في ذلك الوقت كالرسالة ومعظم الدوريات التي كانت تصدر في مصر ولبنان والعراق. في ذلك الوقت، وفي ذلك المناخ الساحر بدأت أعشق الكتاب، وبدأت عوامل الثقافة تنبت في حياتي، وكنت أتخيل أن أجمل اكتشاف في تاريخ البشر (هجائية التواصل) التي نتج منها الكتابة والكتاب.
من هو الملهم أو المحفز الذي قدح شرارة الوعي؟
لا شك أن ذلك المدرس المشرف على النشاطات في مدرسة بني تغلب الابتدائية في مدينة ليلى بالأفلاج، هو الذي قدح الشرارة -كما تقول- ربما كان يقصد أولا يقصد، حينما طلب مني إعداد (خطبة) ألقيها في حفل ختام العام الدراسي، وحينما سألته: وكيف أعد هذه الخطبة؟ أجابني: ابحث عن كتاب من كتب المنفلوطي -ولم أتمكن من نطق الاسم بشكل صحيح وهو يقصد مصطفى لطفي المنفلوطي- وانقل من الكتاب ما يصلح لأن يكون خطبة، وأطلعني على ما تختار، وهكذا طلبت من أخي الأكبر في الرياض أن يبحث عن كتاب للمنفلوطي، وهكذا وصلني بعد أيام كتاب (الفضيلة) للمنفلوطي، واخترت منه موضوعاً ما زلتُ أتذكّره بعنوان (السعادة) واكتشفت هذا العالم السحري المذهل.
ما الذي أغراك بعالم الصحافة والأدب؟
حينما ألقت بي الأقدار بين الكتب والدوريات والصحف، بدأت أكتشف هذا العالم الساحر، بدأت أطرق أبواب الصحافة على استحياء، كان الدافع المحرك، حين ذاك حبّ الظهور والانتشار، وأصبحت «الهواية غواية» كما يقولون.
كيف كانت طفولتك في الأفلاج؟
كانت مثل غيرها، طفوله حالمة، عنوانها البراءة والإقبال على الحياة. وحينما بدأ الوعي يُشكل العقل، اكتشفت أني كنت أعيش في منطقة من أهم المناطق في وسط الجزيرة العربية بتاريخها القديم، إذ كانت تعيش فيها أربع من أهم القبائل من بني كعب بن عامر. عاش فيها أهم شعراء العرب كالصمة القشيري، والنابغة الجعدي، وقيس بن الملوح (صاحب ليلي العامرية في قصة العشق المعروفة).
ماذا تبقى فيك من طفل الأمس؟
كل شيء.. ما زلت ذلك الطفل الحالم بكل شيء. اكتشفت أن الإنسان لا بد أن يكون طفلاً في أحيان، ورجلاً في أحيان. لا بد أن نواجه جور السنين، بأن نكون أطفالاً، وإلا واجهنا حتفنا قبل الأوان.
أين وجدت نفسك بين التاريخ والإعلام والنشر؟
هذه الدوائر الثلاث، تتوسطها دائرة، تصل بينها، هذه الدائرة هي الإنسان، أنت وأنا، البشر عموماً. التاريخ هو تاريخ البشر، التاريخ علم الإنسان. والإعلام يشيع حياة البشر عبر وسائله التي تعددت الآن أكثر من أي وقت مضى، والنشر هو الأداة المكملة لدائرتي التاريخ والإعلام. كان الشعر في زمن أسلافنا هو هذه الدوائر الثلاث: التاريخ، الإعلام، النشر.
هل أغرتك دراسة التاريخ بقراءة كتب الملاحة والفلك؟
الحقيقة أنني اكتشفت أن هناك ملاحاً عربيّاً من الجزيرة العربية وهو (أحمد بن ماجد) ربما لفت انتباهي تشابه الاسم، الذي أثار في عزيمتي البحث في حياة هذا الملاح، الذي كان هو أحق من (فاسكوداجاما) باكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، الذي يصل إلى كالكوتا بالهند، إذ كان هو الملاح الذي أرشد (دي جاما) في هذه الطريق، ونشرتُ بحثاً في مجلة العرب التي يصدرها علامة الجزيرة العربية حمد الجاسر، عن حياه هذا الملاح، أنصفته، وحاولت أن أرد له ما استلب منه بدون حق. كانت حياة هذا الملاح مجهولة لكثير من الباحثين، والحقيقة أن الفضل الأول في الكشف عن حياة هذا الملاح العربي يعود إلى الدكتور أنور عبدالعليم -رحمه الله- إذ ألف كتاباً عن حياة أحمد ماجد، نشره في سلسلة أعلام العربي، التي كانت تصدر عن الهيئة العامة للكتاب في مصر، بعنوان (الملاح العربي أحمد بن ماجد)، سلط الأضواء على حياته وكشف الطريق البحري من (مالندي) على الساحل الشرقي للبحر الأحمر إلى كالكوتا بالهند، وسلط الأضواء على دور ومؤلفات هذا الملاح في الملاحة البحرية.
أي المراحل تراها أخصب ثقافياً، ومن الذي له الفضل في ذلك؟
فترة التوهج في الحياة، تتزامن مع فترة النمو العقلي في مرحلة الشباب، وهي فترة التأسيس، وحينما أعود وأتأمل في سجل حياتي تبرز أحداث وأسماء مؤثرة في حياتي، ولعل وجودي بين الكتب في دار الكتب الوطنية بالرياض أتاح لي فرصة سانحة للتلقي، وتشعر أنك في حضرة آلاف العقول التي تمثلها هذه الآلاف من الكتب. غير أن مزاملة ومعايشة لعالم ومفكر وباحث هو أبوعبدالرحمن ابن عقيل، لفترة من الزمن، وهو الذي أفنى حياته ومعاشه في التأمل والبحث والدراسة، كانت من بين العوامل الأساسية التي طوعت عقلي ومجالدتي على الاطلاع والبحث، ثم فرصة عملي في جامعة الرياض (جامعة الملك سعود)، ودارة الملك عبدالعزيز، وعملي مع الراحل العظيم محمد حسين زيدان في مجلة الدارة، كانت هذه الأسباب هي الأجنحة التي يُحلّق بها أي مخلوق يعشق الطيران إلى الآفاق.
لماذا أسست دار المريخ للنشر في مصر؟
حينما انطلقت دار المريخ للنشر في الرياض، كدار نشر علمية أكاديمية، كانت القاهرة مركز الثقل عربيّاً في المجال العلمي والبحث، والنشر، وجُلّ إنتاج دار المريخ في الرياض يتم تجهيزه في القاهرة، فتأسست دار المريخ للنشر في مصر؛ لتكون امتداداً ومركز إنتاج وحلقه اتصال مع المركز بالرياض.
هل كسبت من تجارة الكتب؟
كسبت ما هو أثمن من الكسب المادي، وهو أن يتولد لديك الشعور بأنك تعمل عملاً يشكل إضافة حية لما هو موجود، أعتقد أن الإصدارات التي نشرتها دار المريخ كانت تشكل إضافة حيّة. وحينما أستعرض سجل منشورات دار المريخ أشعر بالفخر والاعتزاز، إنه ما من موضع علمي حي ويشكل إضافة مهمة إلا وصدر عنه كتاب إما مؤلف أو مترجم.
ما سرّ تعلقك بفضاء نجيب محفوظ؟
فضاء نجيب محفوظ واسع لا حدود له، اتسع لكثيرين، وكان سبباً في بروز أسماء كثير من النقاد والباحثين. قابلت نجيب محفوظ لأول مرة في أواخر عام 1971م، وأجريت معه حديثاً، صادف هذا الحديث مناسبة بلوغه 65 عاماً من عمره، وأعجب بالأسئلة. وقال حينها: «أنت مذاكر كويس يا ابني»، وكنت فعلاً «مذاكر كويس»، إذ أمضيت أسبوعاً في إعداد الأسئلة، معتمداً على أرشيفه في أرشيف (أخبار اليوم)، ومنذ ذلك الحديث بدأت أهتم بإنتاج نجيب محفوظ دارساً، وجعلت ذلك الحديث محوراً أساسياً تقوم عليه الدراسة. درست إنتاج نجيب محفوظ قبل حرب 1967 (عام الهزيمة)، وما قبل 1973 (عام الانتصار)، وجعلت لهذه الدراسة عنواناً مؤقتاً «أحلام المهزوم والمنتصر»، والحقيقة أن تلك الفترة من إنتاج نجيب محفوظ بالغة الأهمية، خصوصاً مجموعاته القصصية والمسرحية، ولم تدرس من قبل نقاده.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة عكاظ