نجح إيلون ماسك في تحقيق ما اعتبره البعض مستحيلاً عندما استحوذ على «تويتر»، فقد قلَّص عدد موظفي الشركة بنسبة كبيرة، إلا أن الشركة استمرت في العمل، بل حققت تطورات ملحوظة، هذا النهج يثير تساؤلات عميقة حول إمكانية تطبيقه على القطاع العام الأميركي الذي يُعتبر من أكبر قطاعات القُوى العاملة عالمياً، وكيف يمكن أن يدعم نهج ماسك الاقتصاد الأميركي أو يعززه سياسياً في حال اعتمده دونالد ترامب ضمن استراتيجيته لإدارة اقتصاد البلاد.
تجربة ماسك مع تويتر
بعد استحواذ ماسك على تويتر في عام 2022 مقابل 44 مليار دولار، خفض عدد الموظفين من 7500 إلى أقل من 2000 موظف، وهذا التقليص يمثل نحو 75% من القُوى العاملة.
وفقاً لتصريحات ماسك، كان الهدف من هذه الخطوة هو تقليل التكاليف وتحسين كفاءة العمل عبر تبني الذكاء الاصطناعي وأتمتة المهام، وأكد أن التركيز على الأداء الفردي كان عاملاً رئيسياً في اختيار الموظفين الذين تم الاحتفاظ بهم.
ووفقاً لتقارير اقتصادية من Bloomberg وForbes، أدى تقليص الموظفين إلى خفض التكاليف التشغيلية بنسبة تصل إلى 50%.
كما استمرت المنصة في العمل مع تقديم ميزات جديدة، مثل تعزيز الاشتراكات المدفوعة عبر Twitter Blue.
في ما يتعلق بنهج ماسك، أشار محلل التقنية «دان آيفز» من Wedbush Securities إلى أن «ماسك أثبت أن تقليص التكاليف بجرأة يمكن أن ينقذ الشركات المتعثرة، لكن تطبيق هذا النهج في القطاع الحكومي يحمل مخاطر اجتماعية وسياسية كبيرة».
إمكانية تطبيق استراتيجية ماسك على القطاع العام
الحكومة الفيدرالية الأميركية تُعد واحدة من أكبر أرباب العمل في العالم، حيث يعمل بها نحو 2.1 مليون موظف مدني، هذا الرقم لا يشمل العاملين في المؤسسات الحكومية المحلية أو الحكومية التابعة للولايات.
هذا العدد الضخم من الموظفين يشكل تحدياً كبيراً في ما يتعلق بكفاءة الإدارة والقدرة على تقديم الخدمات العامة بسرعة وفاعلية، كما أن تعدد الوكالات والهيئات الحكومية التي تتراوح بين وزارة الدفاع إلى إدارة الأمن الداخلي، يسهم في تعقيد الهيكل التنظيمي ويجعل من الصعب تحديد المسؤوليات وتقليل الفاقد في الإنتاجية.
في القطاع الخاص، مثل تويتر، يمكن للاستراتيجيات مثل تقليص القُوى العاملة أن تُنفذ بسرعة وبمرونة أكبر بسبب الهيكل الإداري الأقل تعقيداً والأقل تأثراً بالضغوط السياسية، في حالة تويتر، استطاع ماسك تقليص عدد الموظفين بشكل كبير بسبب هيكل ملكية خاص يسمح باتخاذ قرارات سريعة دون الحاجة للامتثال لمراجعات مطولة أو معايير رقابية خارجية.
القطاع العام يخضع لرقابة مشددة من قِبل السلطات التشريعية والرقابية، مثل الكونغرس، ما يحد من مرونة الإجراءات، إضافةً إلى أن أي محاولة لتقليص عدد الموظفين قد تواجه مقاومة كبيرة من الموظفين النقابيين.
وكما هو الحال في تويتر، قد يؤدي تقليص عدد الموظفين إلى تحسين الكفاءة وتقليل التكاليف، ولكن في القطاع العام قد يؤدي إلى تعطيل تقديم الخدمات الأساسية، مثل خدمات الرعاية الصحية، والتعليم، والأمن العام.
وفقاً لتقرير The Government Accountability Office (GAO)، فإن الحكومة الفيدرالية تعتمد بشكل كبير على قُوى العمل البشرية في العديد من العمليات التي لا يمكن أتمتتها بسهولة، على سبيل المثال، التفاعلات مع المواطنين في قضايا الضمان الاجتماعي، والضرائب، أو الهجرة تتطلب تقديم خدمة شخصية، وهي أمور يصعب الأتمتة فيها دون التأثير على الجودة.
في القطاع الخاص، يمكن أن تُتخذ قرارات تقليص الوظائف على مستوى الشركة أو حتى على مستوى الإدارات بسهولة نسبية، ولكن في القطاع العام، تُعتبر هذه القرارات أكثر تعقيداً؛ نظراً لوجود العديد من النقابات العمالية التي تدافع عن حقوق موظفي الحكومة، هذا يجعل أي محاولة لتطبيق استراتيجية ماسك في القطاع العام تواجه مقاومة من القُوى السياسية والعمالية التي قد تُعرقل أي مسعى لتقليص الموظفين أو تقليل حجم الحكومة.
سيكون من الصعب أن تجد القبول الشعبي والسياسي لاستراتيجية مثل تلك التي طبقها ماسك في تويتر؛ فالمواطنون يعتمدون على الحكومة في تقديم العديد من الخدمات الأساسية، وبالتالي تقليص الموظفين قد يؤدي إلى ردود فعل سلبية ضد أي حكومة تحاول تقليص هذا العدد.
على سبيل المثال، قد تثير مثل هذه السياسة في حال تبنيها ردود فعل غاضبة من الفئات الضعيفة مثل ذوي الاحتياجات الخاصة، والمتقاعدين، والعاطلين من العمل الذين يعتمدون على البرامج الحكومية بشكل أساسي.
تشابه التحديات
الحكومة الفيدرالية الأميركية تُعد من أكبر أرباب العمل في العالم، حيث تضم أكثر من 2.1 مليون موظف مدني في مختلف الوكالات والهيئات الحكومية. تترتب على هذا العدد الكبير من الموظفين تكاليف ضخمة، تتضمن الرواتب والمزايا الاجتماعية مثل التأمين الصحي والتقاعد، إضافة إلى أن العديد من الموظفين الحكوميين يتقاضون رواتب تفوق نظراءهم في القطاع الخاص في بعض المجالات، ما يرفع تكلفة التشغيل بشكل كبير.
وفقاً لتقرير مكتب الإدارة والموازنة (OMB)، تُقدر تكلفة الرواتب الحكومية الأميركية بـ 140 مليار دولار سنوياً، دون احتساب التكاليف المرتبطة بالمزايا والخدمات الإضافية.
كما أن الإدارة الحكومية تتطلب وجود عدد كبير من الموظفين الإداريين لدعم عمليات التنسيق بين مختلف الوكالات، وهو ما يضيف عبئاً إضافياً على الميزانية الفيدرالية.
وتظل البيروقراطية هي أحد أكبر التحديات التي تواجه القطاع العام الأميركي؛ فالعديد من الإجراءات الحكومية، سواء كانت في منح تراخيص، وتقديم خدمات، أو صرف ميزانيات، تتطلب مروراً عبر مستويات متعددة من الموافقات والتنظيمات، هذا النظام قد يبطئ من سرعة اتخاذ القرارات وتنفيذ السياسات.
دراسة أعدَّها The Brookings Institution أظهرت أن 55% من الموظفين الحكوميين يعملون في أدوار إدارية تتعلق بإجراءات وموافقات بيروقراطية، بدلاً من تقديم خدمات مباشرة للمواطنين.
مثل هذه البيروقراطية قد تؤدي إلى تأخير تنفيذ مشروعات مهمة مثل البنية التحتية أو التحفيزات الاقتصادية، ما يُعوق النمو الاقتصادي، ففي عام 2023، على سبيل المثال، أظهرت تقارير أن مشروعات بناء الطرق السريعة في الولايات المتحدة تأخرت بسبب الإجراءات البيروقراطية المتعمدة، ما أدى إلى إهدار مليارات الدولارات من الميزانية الفيدرالية.
الاقتصادي «جوزيف ستيغليتز» الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد، أشار في دراسة له إلى أن «تقليص البيروقراطية في المؤسسات الحكومية يمكن أن يُحرر الموارد المالية التي يمكن توجيهها للاستثمار في الابتكار والمشروعات التي تؤثر بشكل مباشر على النمو الاقتصادي»، لكن مع ذلك، يضيف ستيغليتز أنه يجب توخي الحذر في تقليص الوظائف الحكومية، خاصة في القطاعات التي تقدم خدمات حيوية مثل الرعاية الصحية والتعليم.
هذا التوسيع يُظهر كيفية تأثير التحديات الحالية على فاعلية الحكومة، ويضع سياقاً لما قد يحدث إذا تم تقليص أو تحسين هذه الأنظمة.
الفوائد المحتملة
تقليل الإنفاق الحكومي، إذ يبلغ العجز الأميركي الحالي نحو 1.8 تريليون دولار وفقاً لبيانات وزارة الخزانة الأميركية (2024)، تقليص عدد الموظفين يمكن أن يسهم في تخفيض هذا الرقم بشكل كبير، مع توجيه الموارد إلى قطاعات إنتاجية مثل البنية التحتية والطاقة المتجددة.
الخبير الاقتصادي «لاري سمرز»، وزير الخزانة الأسبق، أشار إلى أن «تقليص الوظائف الحكومية يحتاج إلى تخطيط دقيق لضمان عدم التأثير على الخدمات الحيوية التي يعتمد عليها المواطنون».
ماسك كسلاح سياسي لترامب
يمكن للرئيس السابق دونالد ترامب أن يستفيد من نجاح إيلون ماسك في تويتر كدليل على إمكانية تقليص التكاليف الحكومية دون التأثير على الكفاءة، وهو أمر يتماشى مع السياسات الاقتصادية التي يروّج لها، بالنسبة لترامب، الذي يتبنى سياسات تقليص حجم الحكومة في إطار معايير المحافظة، فإن تقليص الوظائف الحكومية أو تقليل الإنفاق العام يمكن أن يكون جزءاً أساسياً من استراتيجيته، هذا سيتماشى مع قاعدة الدعم الشعبي التي تفضل تقليص دور الحكومة في الاقتصاد.
على الرغم من نجاح ماسك الكبير في تويتر، فإنه لا يزال شخصية مثيرة للجدل، ما يجعل استخدامه كسلاح سياسي سيفاً ذا حدين. المحافظون الذين غالباً ما يفضلون الحد من دور الحكومة، يرون في ماسك رمزاً للابتكار والكفاءة، وقد يروّجون لهذا النجاح كنموذج يُحتذى به في القطاع العام، من جهة أخرى، يرى الليبراليون أن نهج ماسك قد يؤدي إلى تهديد الحقوق الاجتماعية، ويخلق مخاطر متعلقة بالتوظيف وتوفير الخدمات العامة.
في هذا السياق، أشارت The Washington Post إلى أن ماسك يُعتبر بالنسبة للمحافظين مثالاً على الكفاءة والابتكار، بينما ينتقده الليبراليون باعتباره شخصاً يقيم الأولوية للأرباح على حساب المجتمع.
من خلال تصريحاته على تويتر، عبَّر ماسك عن فلسفته التي قد تتماشى مع موقف ترامب في تقليص الحكومة.
يقول ماسك «الكفاءة تعني فعل المزيد بموارد أقل».
هذه العبارة قد تكون بمثابة دعم عملي لمفهوم تقليص حجم الحكومة وتخفيض تكاليفها، وهو ما يتوافق مع أولويات ترامب في تقليل الإنفاق الحكومي، بذلك، يمكن أن يكون ماسك حليفاً طبيعياً لترامب في طرح أفكار تتعلق بإصلاح القطاع العام وإعادة هيكلة الحكومة.
رؤية قابلة للتطبيق أم خيال سياسي؟
نجاح إيلون ماسك في تويتر يعكس إمكانات تطبيق استراتيجيات مماثلة لتحسين كفاءة القطاع العام، إلا أن تطبيق هذه الاستراتيجيات على الحكومة الفيدرالية يتطلب دراسة دقيقة وشاملة لضمان تجنب الآثار الجانبية السلبية، خاصة في ظل حجم وتعقيد الأجهزة الحكومية.
بعد أن نجح ترامب في العودة إلى السلطة، يمكن أن يعتبر تبني هذه الأفكار جزءاً من استراتيجيته لتعزيز الكفاءة الاقتصادية وتقليل التكاليف الحكومية. لكن في الوقت نفسه، يواجه ترامب تحدياً كبيراً في إقناع الجمهور بأن الفوائد التي ستتحقق من تقليص حجم الحكومة ستفوق التحديات التي قد تطرأ، مثل تدهور جودة الخدمات أو ارتفاع معدلات البطالة في بعض القطاعات.
هذا المحتوى مقدم من منصة CNN الاقتصادية