في قلب القارة الإفريقية، حيث تلتقي المصالح الاقتصادية والجيوسياسية للقوى الكبرى، يبرز «التحول الرقمي» كأداة استراتيجية لإعادة تشكيل النفوذ بين القوى العظمى، وفي مقدمتها فرنسا، التي تحمل إرثاً تاريخياً عميقاً في إفريقيا، وروسيا الطموحة، والصين التي تغلغلت اقتصادياً عبر استثمارات ضخمة ومبادرات مبنية على التقنيات الحديثة.
وفي حديثهم لـ«إرم بزنس»، يشير خبراء في الشؤون الإفريقية والفرنسية إلى أن التنافس بين الدب الروسي، التنين الصيني، والديك الفرنسي أصبح أكثر وضوحاً في هذا السباق الحاسم نحو تعزيز التواجد الرقمي في القارة السمراء. وبينما تسعى باريس لاستعادة دورها التاريخي في المنطقة، ترى أن «الرقمنة» هي المفتاح لاستعادة الزخم والنفوذ الذي فقدته على مدار السنوات الماضية.
هذا التنافس، رغم تحدياته، يحمل في طياته فرصاً كبيرة لإفريقيا، إذ من المتوقع أن يسهم هذا التراكم في الاستثمارات الرقمية في تسريع وتيرة التحول الرقمي في القارة، والوصول بها إلى أهدافها التنموية بشكل أسرع وأكثر فاعلية. ومن هنا، يبدو أن هذا الصراع المحتدم بين القوى الكبرى قد يكون في صالح إفريقيا، التي قد تحقق مكاسب كبيرة من هذا السباق التكنولوجي.
تحت هذا السقف، تتوالى الفعاليات وتوقيعات مذكرات التفاهم والشراكات بين مختلف الأطراف، في وقت تدرك فيه القارة أن الرقمنة ستكون العامل الأبرز في رسم ملامح مستقبلها الاقتصادي والسياسي.
قبل نحو أسبوع، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف التوقيع على حزمة من الاتفاقات ومذكرات التفاهم شملت مختلف المشاريع مع دول إفريقيا، في ختام أعمال المؤتمر الوزاري الأول لمنتدى الشراكة بين روسيا وإفريقيا الذي عقد في سوتشي بمشاركة وزراء خارجية 40 بلداً من القارة، واعداً بـ«دعم كامل» لتلك البلدان، بمواجهة سباق مع الغرب قادته باريس أخيراً على خلفية صراع موسكو وكييف منذ نحو عامين.
وجاء المؤتمر الروسي الإفريقي بعد نحو أيام من زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى المغرب، إحدى أبرز دول شمال إفريقيا، أواخر أكتوبر الماضي، شهدت توقيع اتفاقيات واستثمارات بمليارات الدولارات، كان بينها توقيع الشركة المغربية «بانافسات» وشركة «تاليس ألينيا سبيس» مذكرة تفاهم لإنشاء نظام اتصالات عبر الأقمار الصناعية موجهاً لدعم التحول الرقمي في القارة الإفريقية، وتوفير اتصال عالي السرعة لـ26 دولة إفريقية، بما في ذلك 23 دولة ناطقة بالفرنسية، لتمكين 550 مليون شخص من الوصول إلى خدمات الإنترنت عبر مساحة تُقدر بـ 12 مليون كيلومتر مربع.
وسبقه في سبتمبر الماضي، استقبال بكين وفداً من 53 دولة إفريقية، ضمن حفل افتتاح المنتدى «الصيني الإفريقي»، تعهَّد خلاله الرئيس الصيني شي جينبينغ بزيادة دعم الصين للقارة الإفريقية، بتمويل يبلغ نحو 51 مليار دولار، ودعْم المزيد من مبادرات البِنْية الأساسية، وتعهَّد بخلْق ما لا يقل عن مليون فرصة عمل، مع تنفيذ بكين 30 مشروعاً للبنية التحتية الأساسية في أنحاء القارة وضخ استثمارات جديدة بقيمة 10 مليارات دولار، ستنفذها شركات صينية.
وتشير دراسة صادرة عن المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في ديسمبر 2023 إلى تفوق الصينيين على نظرائهم الأوروبيين والأميركيين من حيث الحصة السوقية في البنية التحتية للاتصالات، وتصنيع الهواتف المحمولة التي تشغل 73% من سوق الإنترنت في إفريقيا.
ويأتي السباق الروسي الصيني الفرنسي مع الرغبة الإفريقية في التحول الرقمي، إذ أطلقت القارة السمراء في عام 2014 القمة الإفريقية الرقمية، التي أصبحت خلال 10 سنوات بمثابة منصة للعلامات التجارية والشركات الناشئة، وعقدت أحدث اجتماع لها في الدار البيضاء بالمغرب في أكتوبر الماضي، بحث قضايا الرقمنة ومسارات الفرص والتحديات.
وحالياً، يبلغ حجم الاقتصاد الرقمي في إفريقيا نحو 115 مليار دولار، في حين توقع التقرير الصادر عن مبادرة «الأعمال الإفريقية العالمية» في أغسطس الماضي أن «يصل اقتصاد إفريقيا الرقمي إلى 180 مليار دولار بحلول 2025، و712 مليار دولار بحلول عام 2050».
تلك التقديرات التي تغري اللاعبين الدوليين صدرت عقب اجتماع مبادرة «الميثاق العالمي للأمم المتحدة» مع الرؤساء التنفيذيين للمبادرة ذاتها في كيغالي، تحت شعار «التحول الرقمي»، ووفقاً لتقديرات ذلك الميثاق، فإن حوالي 230 مليون وظيفة في إفريقيا ستحتاج إلى مستوى معين من المهارات الرقمية بحلول عام 2030، ما يزيد الطلب على تدريب المهارات الرقمية في إفريقيا بالعقد المقبل، ويترجم إلى إمكانية تقديم 650 مليون فرصة تدريبية.
عمق استراتيجي
القارة السمراء تعد امتداداً وعمقاً استراتيجياً لفرنسا التي تعد من أبرز الداعمين للشركات الناشئة الإفريقية، إذ توفر باريس من خلال برنامج (La French Tech Afrique) تمويلات ضخمة ومساعدات تقنية للشركات الناشئة التي تركز على حلول مبتكرة في مجالات مثل الخدمات المالية الرقمية، والتعليم الإلكتروني، والتكنولوجيا الصحية، وفق الخبير الاقتصادي أنيس الوهابي.
ويشير الوهابي، في حديث مع «إرم بزنس»، إلى دراسة للبنك الإفريقي للتنمية، أظهرت أن 35% من الاستثمارات الفرنسية في القارة السمراء موجهة إلى قطاع التكنولوجيا، مما يعكس إدراك باريس لأهمية هذا القطاع في إعادة تشكيل العلاقات «الإفريقية-الفرنسية» بعد تدهور نفوذها على الجانب السياسي في الآونة الأخيرة حتى مع حلفائها لحساب الدب الروسي.
ومن الكيانات التي تعتمد عليها باريس في تعزيز التحول الرقمي في إفريقيا، بحسب الوهابي، مجموعة «خبراء فرنسا» التي تؤدي دوراً مهماً في هذا التغيير، إذ تؤمن أن التكنولوجيا الرقمية تعمل على تسريع مسارات النمو نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ويظهر الموقع الإلكتروني لمجموعة «خبراء فرنسا» أنها تتواجد في دول القرن الإفريقي، وجنوب الصحراء الكبرى، ودول مجموعة الإيكواس؛ بهدف مساعدتهم على النهوض بالخدمات الرقمية والتكنولوجية، وبين تلك الدول الإفريقية بنين، من خلال مشروع دعم التغيير نحو البيانات المفتوحة وهو مموّل من الوكالة الفرنسية للتنمية، وفي رواندا تنفذ مشروعاً يهدف إلى تعزيز الحوكمة الرقمية بين الوزارات.
ويلفت الوهابي إلى أنه في ليبيا تعمل مجموعة خبراء فرنسا على تمويل مشروع «رقميّون»، الذي استهدف تدريب أكثر من ألفي شخص، بما يشمل موظفي 16 جهة حكومية وست بلديات، لتطوير الأداء وسرعة الإنجاز في العمل الحكومي، إلى جانب عدد من المدارس التي تعمل على تطوير مناهجها التعليمية.
نفوذ تكنولوجي
ووفق الباحثة ألفة السلامي، فإن فرنسا من أبرز الدول التي تستثمر في دعم التحول الرقمي في إفريقيا، فقد خصصت استثمارات كبيرة في بناء مراكز البيانات الحديثة، وتطوير شبكات الإنترنت فائقة السرعة، ومن أبرز المشاريع (Digital Africa Fund) وهي مبادرة ممولة من الوكالة الفرنسية للتنمية، ودشنت في عام 2019، وتقدم تمويلاً يصل إلى 15 مليون يورو لدعم شركات التقنية الناشئة في إفريقيا، بهدف تعزيز التحول الرقمي.
وفي حديث لـ«إرم بزنس»، تشير السلامي إلى أن فرنسا تعمل أيضاً على دعم مشروعات البنية التحتية الرقمية من خلال تقديم الدعم الفني والمالي لدول القارة، عبر برامج تعاون بين الحكومة الفرنسية والشركات الكبرى مثل شركة «أورانج» التي تدير شبكة واسعة من الخدمات الرقمية في العديد من الدول الإفريقية، لتطوير شبكات الألياف الضوئية.
ومن خلال هذا التعاون، تستفيد فرنسا من تعزيز نفوذها الاقتصادي والتكنولوجي في القارة الإفريقية، وتدعم الشركات الفرنسية توسعها في أسواق جديدة، وتعزيز العلاقات التجارية مع الدول الإفريقية، وفق السلامي.
عقبات
التواجد الفرنسي لا يزال أمامه تحدي الحضور الروسي والصيني، وفق تقدير المحلل في الشؤون الإفريقية عبد الناصر الحاج، إذ أصبح وجوداً مُحاطاً بكثير من التعقيدات الشائكة المتمثلة في «تركة» التاريخ الاستعماري الفرنسي في غرب إفريقيا والساحل، وهو الأمر ذاته الذي جعل كثيراً من دول غرب إفريقيا والساحل تفتح أبوابها على مصراعيها لروسيا والصين.
وبحسب حديث الحاج لـ«إرم بزنس»، حققت موسكو تحديداً نجاحاً ملحوظاً في توغلها داخل القارة السمراء، وقامت بتعزيز شراكات تعاون «روسي إفريقي» في عدد من المجالات المهمة، مثل الطاقة والتكنولوجيا والتعدين، وطرحت نفسها بديلاً للحضور الفرنسي القديم في إفريقيا، واعتمدت في ذلك على آلية تعزيز التعاون العسكري في مجالات التدريب والتسليح، وهو الأمر الذي ظل يلبي الاحتياجات الآنية لعدد من البلدان الإفريقية في مواجهة الاضطرابات الأمنية ومهددات السلطة المركزية في تلك البلدان.
ووفق المحلل السوداني المتخصص في الشؤون الإفريقية، خسرت فرنسا حديثاً إفريقيا الوسطى ومالي، وتدهور وجودها في بوركينا فاسو، في المقابل استفادت روسيا من تاريخها القديم أيام الاتحاد السوفياتي الذي كان يقدم الدعم لحركات التحرر الإفريقي في مواجهة ما يسميه الأفارقة بـ«الغطرسة» الاستعمارية للدول الغربية.
ورغم أن فرنسا تُعد من الدول الرائدة عالمياً في مجال التحول الرقمي، وأن إفريقيا تمثل بيئة واعدة تستدعي استثمارات مكثفة في مجال تكنولوجيا الاتصالات ورقمنة الحكومات، فإن تعزيز جاذبية الاستثمارات الفرنسية في القارة السمراء يواجه تحديات كبيرة، إذ يتطلب جهودًا دبلوماسية وسياسية تتسم بالحياد وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وهو ما يبدو صعب المنال في ظل استمرار فرنسا في اتباع نهج يتداخل مع السياسات المحلية، وفق الحاج.
في المقابل، نجحت روسيا في تقديم نفسها كوجه جديد يدعم استقلال الدول، ويُروج للدعاية بحفظ سيادتها الوطنية، ويحميها عبر «حق الفيتو» ضد أي مشاريع قرارات أممية تسعى للهيمنة وتقنين التدخل الدولي الغربي، بحسب المحلل السوداني.
منافسة تحتدم
وبينما تقدم فرنسا مبادرات لدعم التحول الرقمي في إفريقيا، تبقى المنافسة الدولية، خصوصاً من الصين وروسيا، تحدياً كبيراً، كما أن النجاح في تعزيز نفوذها يتطلب استراتيجية شاملة تجمع بين الشراكة الحقيقية مع الدول الإفريقية، والابتكار، وتحقيق مكاسب متبادلة، وفق عقيلة دبيشي مدير المركز الفرنسي للدراسات.
وفي حديث مع «إرم بزنس»، توضح دبيشي أن فرنسا تعمل على تعزيز التحول الرقمي في إفريقيا من خلال عدد من المبادرات التي تشمل برنامج التحالف الرقمي الذي أطلقته الحكومة الفرنسية لدعم الابتكار وريادة الأعمال في إفريقيا عبر توفير التمويل والدعم التقني للشركات الناشئة، واستثمارات في التعليم الرقمي، وتمويل مشروعات تدريب الشباب الإفريقي على المهارات الرقمية بالتعاون مع الجامعات والمؤسسات المحلية.
ولتعزيز نفوذها السياسي والاقتصادي، ترى مدير المركز الفرنسي للدراسات، أن باريس تدعم التحول الرقمي في إفريقيا ليمنحها نفوذاً أكبر في الدول الإفريقية من خلال تعميق الروابط الاقتصادية والثقافية، مما يفتح أسواقًا جديدة للشركات الفرنسية العاملة في قطاع التكنولوجيا والاتصالات.
وتشير دبيشي إلى أن تسريع التحول الرقمي يساعد على تحسين البنية التحتية الرقمية في القارة الإفريقية وتمكين الشركات الناشئة بها، فضلاً عن خلق فرص عمل للشباب الإفريقي وتدريبهم على المهارات الرقمية، مما يفتح لهم آفاقاً جديدة.
هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس