الذكاء الاصطناعي صديق للصحفيين ومهدِّد لمستقبلهم.. مخاوف من التضليل ودعوات لضوابط ومواثيق شرف لاستخدامه (تحقيق)

لم يكن مُدقق المعلومات والصحفى، أحمد جمال، يتوقع أن العمل الذى كان يستغرق منه عدة ساعات لإنجازه، سيكون بالإمكان إنجازه خلال دقائق أو ربما لحظات معدودة، بواسطة أدوات الذكاء الاصطناعى.. فبعد أن كان يستخدم وسائل بدائية للتحقق من صحة صورة أو فيديو، أصبح الأمر مختلفاً مع انتشار وتطور أدوات «الذكاء الاصطناعى»، سواء من حيث السرعة أو الدقة أو نسبة النجاح.

حال «جمال» مثل حال كثير من الصحفيين الذين تحولوا لاستخدام تلك الأدوات المستحدثة لإتمام مهامهم اليومية، من بحث وتحليل بيانات والوصول للمصادر، وأيضاً اقتراح محاور وأفكار للتحقيقات والتقارير التى يعملون عليها، وتفريغ المقابلات الصوتية لنص مكتوب، والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل تعداه لكتابة أخبار كاملة وإعادة صياغة الموضوعات وتصحيح أخطائها النحوية والمعلوماتية. لكن بالرغم من أهمية تلك الأدوات فى مساعدة الصحفيين وتوفير جهدهم ووقتهم، فإن الخبراء ينبهون فى المقابل إلى التأثيرات السلبية المحتملة التى ينطوى عليها استخدامها، بداية من إمكانية نشر معلومات مزيفة أو غير دقيقة أو منحازة بما يشكل خطراً على مصداقية المؤسسات الصحفية، وحتى تهديد الصحفيين فى أرزاقهم، مؤكدين ضرورة وضع ضوابط لاستخدام منتجات الذكاء الاصطناعى فى العمل الصحفى، وإضافة أكواد إلى مواثيق الشرف مهمتها السيطرة على تداخل تلك التطبيقات مع المهنة.

محرك «ثورة التكنولوجيا» يطرح تساؤلات حول مصير الصحافة

«الذكاء الاصطناعى أصبح أشبه بالمرشد أو الصديق الذى يُقدّم مقترحات ووجهات نظر قد تكون مختلفة عن وجهة نظرى. أحياناً أقبلها، وأحياناً أعدّلها لتتناسب معى، أو أرفضها وأعتمد على ما توصلت إليه بنفسى»، بهذه الكلمات حاول الصحفى ومُدقّق المعلومات، أحمد جمال، تلخيص طبيعة علاقته بالذكاء الاصطناعى وتأثيره على الصحافة، فى ظل التطورات المتلاحقة التى طرأت على تطبيقات الذكاء الاصطناعى وتداخلها مع كل المجالات، ومن بينها الصحافة.

قصة بدأت 1950

لم يكن «الذكاء الاصطناعى» وليد السنوات الأخيرة، ولكنه، كما يقول الباحث بكلية لندن الملكية، ستيفن موجلتون، فى دراسة له، كان نتاج أبحاث وتجارب مُضنية تعود إلى عشرات السنوات، وبشكل خاص إلى عام 1950، حيث تقدّم عالم الرياضيات والحواسيب البريطانى، آلان تورنج، بأول ورقة بحثية تختص بدراسة قدرة الآلات على التفكير، وكانت تلك الخطوة هى اللبنة الأولى فى بناء ما يُستخدم اليوم من برامج وأدوات متنوعة فى شتى المجالات.

المجال الصحفى ليس بعيداً عن هذا الأمر، فبمجرد ظهور الطفرة الكبرى فى برامج «الذكاء الاصطناعى»، انتشر الكثير من التطبيقات له داخل الصحافة، بداية من التعرّف على الصور ومطابقتها، مروراً بتحليل البيانات، وصولاً حتى إلى كتابة نص صحفى متكامل بكل عناصره، استناداً إلى مجموعة من المدخلات، فضلاً عن الترجمة الفورية وتشكيل النصوص وتدقيقها إملائياً وحتى معلوماتياً.

ويُنظر إلى الذكاء الاصطناعى الآن على أنه «الموجة التكنولوجية الثالثة» التى ستُغير وجه الصحافة بعد الإنترنت وأدواته الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعى التى لعبت دوراً جوهرياً فى تغيير شكل المهنة والترويج للمحتوى، بل وإنتاجه أيضاً، حسب دراسة لمدير مركز البحوث الصحفية فى كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، البروفيسور شارلى بيكيت.

ثورة الذكاء الاصطناعي

ثورة حقيقية شهدها الكثير من المؤسسات الصحفية على مستوى العالم منذ ظهور «الذكاء الاصطناعى» بمفهومه الحالى وإمكانياته اللامحدودة، حيث أحدثت تطبيقاته تغييرات ملحوظة فى مراحل إنتاج العمل الصحفى، من جمع الأخبار إلى تحريرها والتعديل عليها، وهو ما جعل كُبرى الصحف والمواقع الإخبارية تستعين بتلك التطبيقات لتسهيل دورة العمل، والاستفادة من السرعة الهائلة فى الإنجاز، التى أصبحت تُوفرها.

وعلى سبيل المثال، فقد استعانت وكالة أنباء «أسوشيتد برس» بتقنيات «الذكاء الاصطناعى» فى كتابة التقارير الإخبارية القصيرة فى عدة مجالات، حيث تُنتج مواد عن نتائج المباريات الرياضية، والبيانات المالية، وبعض الأحداث الأخرى التى تحتاج إلى بيانات كثيرة، بينما لجأت صحيفة «واشنطن بوست» إلى تحليل الكميات الهائلة من البيانات المتاحة عن اهتمامات القراء بهدف إنتاج موضوعات جديدة تتلاءم مع اهتماماتهم.

تحسين الصياغة والمراجعة

فى العالم العربى، ثمة نماذج وتجارب كثيرة أخرى أيضاً لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعى فى العمل الصحفى. فحسبما يقول الصحفى ومُدقق المعلومات، أحمد جمال: «فى مجال عملى كمُدقّق معلومات، أعتمد على الذكاء الاصطناعى بطرق متنوعة، بداية من استخدام مواقع للتحقّق من صحة الصور المولّدة بواسطة الذكاء الاصطناعى، أو التى تم التلاعب بتفاصيلها، وحتى مراجعة المادة لغوياً ونحوياً».

ويضيف: «الأدوات التى أستخدمها تتنوع حسب الحاجة، فعندما أحتاج إلى التحقّق من صحة صورة تم التلاعب بها، أستخدم أدوات مثل (Is It AI) و(AI or Not) و(Content at Scale) و(Illuminarty). كما أستخدم أيضاً (PimEyes) و(Hugging Face) و(FotoForensics)».

أما فى ما يتعلق بـ«مراجعة المادة لغوياً ونحوياً، وتحسين الصياغة»، فيستعين «جمال» بأدوات معالجة النصوص مثل «شات جى بى تى» ChatGPT، و«جيميناى» Gemini، وغيرهما، لكنه لا يعتمد عليهما بشكل كامل، وإنما يعتبرهما بمثابة مُرشد يساعده، حسب قوله.

وأمام هذه الأدوات المتنوعة، وغيرها، التى أصبح «جمال» يعتمد عليها بشكل كبير فى عمله كمدقق معلومات، يقول: «يمكننى القول إن مُدقّق المعلومات الآن بدون أدوات ذكاء اصطناعى، هو كالجندى بدون سلاح فى المعركة».

أكثر سرعة ودقة

يُعرّف «الذكاء الاصطناعى»، بحسب معظم المراجع، على أنه «أحد مجالات علوم الكمبيوتر، والمختص بحل المشكلات المعرفية المتعلقة بالتعلم والإبداع والتعرف على الصور، عن طريق تغذية تطبيق مُحدد بكم هائل من البيانات والاحتمالات، وذلك بهدف الوصول لإجابات وحلول لبعض المشكلات بشكل سريع ولحظى، واتخاذ قرارات بناء على ما يمتلكه من معلومات ومعادلات تستجيب للمدخلات». ولذلك يتوقع «جمال» أيضاً أن «تُصبح الصحافة فى المستقبل، فى ظل وجود الذكاء الاصطناعى، أسرع وأكثر دقة»، مؤكداً أن «الصحفى الذى لن يواكب هذا التطور سيتخلف عن الركب فى هذه المهنة المتسارعة». هذا ما يؤكده أيضاً المهندس محمد مغربى، استشارى الذكاء الاصطناعى والتأمين، الذى يشير إلى أن «الصحفيين فى جميع أنحاء العالم باتوا يعتمدون بشكل متزايد على الذكاء الاصطناعى لتحسين أدائهم وتقديم محتوى عالى الجودة بشكل أسرع».

يعتقد «مغربى» أن «من أبرز إيجابيات الذكاء الاصطناعى قدرته على تسريع عملية الإنتاج الصحفى، حيث إن تطبيقات مثل Wordsmith وQuill تُتيح إنتاج تقارير صحفية فى ثوانٍ معدودة بناءً على البيانات المتاحة، ويمكن لهذه الأدوات تحويل المعلومات المجمعة من مصادر مُتعددة إلى نصوص جاهزة للنشر، مما يوفر للصحفيين وقتاً كبيراً ويساعدهم فى التركيز على القضايا الأكثر تعقيداً».

«فى الوقت الذى يعتمد فيه الصحفيون بشكل متزايد على البيانات فى إعداد تقاريرهم، ومع توفر كميات ضخمة من البيانات المفتوحة، يُصبح من الصعب تحليلها يدوياً. وهنا يأتى دور الذكاء الاصطناعى الذى يستطيع معالجة وتحليل البيانات بسرعة وبدقة، حيث تساعد تطبيقات مثل Data Miner الصحفيين فى تحليل كميات البيانات الكبيرة لاستخلاص الاتجاهات والمعلومات المفيدة»، هكذا أضاف «مغربى».

الاستقصاء وتحديد الاتجاهات

ميزة أخرى يُشير إليها أيضاً استشارى الذكاء الاصطناعى «محمد مغربى»، وهى أن «تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى يمكنها أن تكون أداة قوية فى التحقيقات الصحفية، حيث يُمكنها تحليل ملفات ضخمة من الوثائق أو المقالات للبحث عن تفاصيل دقيقة قد تكون فاتت المحققين التقليديين. وعلى سبيل المثال، فقد ساهم استخدام التعلم الآلى لتحليل تسريبات «وثائق بنما» Panama Papers فى تسريع التحقيق وكشف الحقائق المهمة». وحسبما يضيف «مغربى»، فقد ساهم الذكاء الاصطناعى أيضاً فى تحسين جودة الترجمة وتحرير المحتوى. وأصبحت أدوات ترجمة مثل Google Translate أكثر دقة بفضل استخدام خوارزميات تعلم الآلة. وهذا يعنى أن الصحفيين يُمكنهم نشر مقالات بلغات مُتعددة بسرعة، مما يزيد من انتشار الأخبار على مستوى عالمى».

وتابع: «التنبؤ بما سيهتم به الجمهور فى المستقبل أصبح ممكناً بفضل الذكاء الاصطناعى. فتطبيقات مثل NewsWhip تقوم بتحليل بيانات السوشيال ميديا والتفاعلات عبر الإنترنت لتحديد القصص التى من المرجح أن تنتشر وتلقى اهتمام الجمهور. وهذا يساعد المؤسسات الصحفية والصحفيين على التخطيط لمحتواهم بشكل أفضل واستهداف الموضوعات التى تُهم القراء».

تفريغ التسجيلات وتوليد التقارير

وسلَّط «مغربى» الضوء كذلك على عدد آخر من أهم تطبيقات الذكاء الاصطناعى التى تساعد الصحفيين على إنجاز مهامهم اليومية، ومن أبرزها: «تطبيق Wordsmith من شركة أوبن إيه آى OpenAI، والذى يُستخدم لتوليد تقارير إخبارية معتمدة على البيانات، وتطبيق «Heliograf» الذى تستخدمه صحيفة «واشنطن بوست» لتوليد تقارير تلقائية للأخبار العاجلة، أو القصص ذات الطابع الروتينى، بما يتيح للصحفيين التركيز على الموضوعات الأكثر تعقيداً والتحقيقات الطويلة».

وأشار كذلك إلى تطبيق «Trint» الذى يستخدم الذكاء الاصطناعى لتحويل الصوت إلى نص مكتوب بشكل سريع ودقيق، مما يسهل على الصحفيين تحويل مقابلاتهم إلى نصوص مكتوبة بسهولة.

التفرغ للتقارير المعمقة

ومن واقع خبرته العملية، يؤكد الصحفى إيهاب صابر مميزات الذكاء الاصطناعى فى تسهيل عمل الصحفى ومساعدته، مشيراً إلى أنه «يمكن استخدامه فى العديد من النواحى، ومن بينها إنتاج التقارير الصحفية اليومية الروتينية التى تستهلك وقت الصحفى وجهده، ليتفرغ بذلك الصحفى لكتابة التقارير المعمقة والاستقصائية التى تحتاج إلى جهد ووقت، وكاتب من ذوى الخبرة لإتمامها»، حسب قوله.

وأضاف: «يُمكن أن يُستخدم الذكاء الاصطناعى أيضاً فى توليد الصور التوضيحية والبيانية فى الموضوعات الصحفية، والتى يحتاج إليها الصحفى لتوصيل مضمون التقرير المكتوب فى شكل مرئى، مع ضرورة توضيح أن تلك الصور مولدة من خلال أدوات الذكاء الاصطناعى، حتى لا ينخدع فيها القارئ ويتم استخدامها فى غير نطاقها».

وتابع: «أقوم باستخدام أدوات الذكاء الاصطناعى فى البحث والتدقيق، وهذا بعد مراجعة طبعاً من جانبى؛ لأنه لا يمكن الاعتماد على دقته بنسبة 100%»، مؤكداً أن «الذكاء الاصطناعى لا يُستخدم لإنتاج صحافة مستقلة بذاتها دون تنقيح، وفى كل الأحوال لا بد من مراجعة ما ينتج عنه وعدم تقديمه للجمهور فى صورته الخام».

حماية الصحفيين في الحروب

وبناء على بحث لها عن «استخدامات الصحفيين لتطبيقات الذكاء الاصطناعى»، اعتبرت الدكتورة حنان الجندى، أستاذ الإعلام بجامعة «الأهرام الكندية»، أن «العاملين فى مجال الإعلانات يُعتبرون الأكثر استخداماً لـ«شات جى بى تى»، لأن لديه كماً كبيراً من الأفكار والمقترحات التى تساعد العاملين فى هذا المجال على فهم الجمهور المتلقى، كما أنه يقترح عليهم صياغات وجوانب مُحددة لتوصيل الرسالة الإعلانية بشكل أكبر وأكثر دقة، فضلاً عن اقتراح الفيديوهات والصور التى يُمكن أن تستخدم فى الحملة الإعلانية».

وتطرقت أستاذ الإعلام إلى استخدام آخر للذكاء الاصطناعى فى مناطق النزاعات والحروب، قائلة: «فى بعض الأماكن لا يستطيع الصحفى الوجود فى منطقة بها قتال، فيطلب من المراسل الميدانى أو «المواطن الصحفى» داخل المكان أن يزرع كاميرا داخل الحدث وتكون فى الغالب بتقنية تصوير 360 درجة وتنقل الحدث عن بُعد وتوجه هذه الكاميرا من خلال ريموت كنترول من غرفة التحكم وباستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعى بهدف حماية العنصر البشرى من الدخول فى دائرة الخطر».

«سلاح ذو حدين»

إلا أن الصحفى ومُدقق المعلومات، أحمد جمال، يعود ويشير إلى أنه بالرغم من إيجابيات «الذكاء الاصطناعى»، وأنه أصبح عنصراً مهماً فى المجال الصحفى الآن، كونه «يحتوى على أدوات قوية يمكن أن تُساعد المؤسسات الصحفية على تقديم مُنتج أكثر جودة وذى فائدة أكبر للجمهور المتلقى»، إلا أنه ظهرت إشكالية أخرى أثارت قلق الصحفيين، كما يستطرد، وهى أن «كل وسيلة تطور هى سلاح ذو حدين».

فالذكاء الاصطناعى، حسبما يوضح «جمال»: «يمكن أن يكون مفيداً فى يد من يستخدمه بشكل صحيح، ويمكن أن يكون ضاراً إذا استخدم فى التدمير أو الإيذاء، أو فى حالة عدم مراجعة النتائج التى توصل إليها».

وهو ما يؤكده أيضاً المهندس محمد مغربى، استشارى الذكاء الاصطناعى والتأمين، مشيراً إلى أن أى تكنولوجيا لا تخلو من سلبيات بالطبع: «فالذكاء الاصطناعى يعتمد على البيانات.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من صحيفة الوطن المصرية

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من صحيفة الوطن المصرية

منذ 11 ساعة
منذ 38 دقيقة
منذ ساعة
منذ 11 ساعة
منذ 7 ساعات
منذ 3 ساعات
صحيفة اليوم السابع منذ ساعة
بوابة الأهرام منذ 11 ساعة
مصراوي منذ 11 ساعة
بوابة أخبار اليوم منذ 4 ساعات
صحيفة المصري اليوم منذ 3 ساعات
صحيفة المصري اليوم منذ 18 ساعة
صحيفة المصري اليوم منذ 14 ساعة
صحيفة اليوم السابع منذ 11 ساعة