إعداد: د. محمد بن حمد العريمي
تقدم لكم (أثير) في هذا التقرير قصةً أخرى من قصص الكفاح الذي ارتبطت بالإنسان العماني في سبيل بحثه عن لقمة العيش، ومواجهته للأهوال والمصاعب من أجل ذلك. قصة عودة أحد أجزاء سفينةٍ عمانيةٍ شراعية كانت إحدى سفن الأسطوال العماني الممتد ما بين الموانئ، والشاهدة على مأساةٍ وقعت أحداثها في بحر العرب نهاية شهر مايو من عام 1959. عن قصة عودة صارية السفينة (النايف) نتحدث.
بداية الحكاية
في شهر مايو 1959 ضرب المنطقتين الجنوبية والوسطى من سلطنة عمان إعصار مداري هائل ضرب منطقة بحر العرب بشكلٍ مفاجئ، تحت ما يسمى بضربة الإكليل، فقدت جراءه العديد من السفن، كان أبرزها (سمحة) وعلى متنها (141) شخصًا من البحارة والمسافرين، و(الفوز) وعلى متنها حوالي (200) مسافر من مختلف أطياف وأبناء محافظة ظفار الذين سافروا طلبا للرزق أو للدراسة أو للعلاج في ذلك الوقت، و(النايف) التي نجت بمن عليها.
ماذا حدث!
في بداية صيف عام 1378هـ الموافق 1959م، وتحديدًا في شهر ذي القعدة ويقابله شهر مايو، كان الموسم بالنسبة للسفن العربية الراسية بميناء زنجبار في نهايته، وبدأ الكثير من السفن برحلة العودة إلى صور وغيرها من الموانئ العمانية والخليجية، كانت السفينة (سمحة) لصاحبها النوخذة ناصر بن سيف بن ثابت المخيني أحد نواخذة صور وتجارها المعروفين، من ضمن السفن الموجودة حينذاك في زنجبار وقد أكملت شحنتها، ومما يقال بأن السفينة قد تجاوزت الحد المقرر للشحنة مما أدى إلى زيادة وزنها، وكانت من السفن الصورية الكبيرة الحجم .
تحركت السفينة وعلى متنها من غير البضائع ما يصل نحو إلى ( 108 ) راكبين من المسافرين من العمانيين والعائدين إلى عمان إضافة إلى نحو ( 33 ) امرأة يمثلون كل ركاب السفينة من بينهم (24) من طاقم السفينة، ولعطل أصاب المحرك استدعى الأمر أن يقوم النوخذا باستخدام الشراع. ولعدم مواتية الريح لاتجاه السفينة كانت رحلتها بطيئة، وكانت في المسافة الممتدة ما بين الصومال إلى عمان.
كانت السفينة (النايف) وهي من نوع البوم ويملكها الشيخ عبد الله بن محمد بن خلفان العلوي إحدى الشخصيات الصورية البارزة في المجال السياسي والاقتصادي خلال القرن العشرين، بينما كان ربّانها أو (نوخذتها) هو علي بن محمد الخيّال العلوي، وهو ربّان معروف سبق له امتلاك وقيادة عدد من السفن الشراعية، قد تركت ميناء (نجوميني) في طريقها إلى صور، وهنا يشير الباحث خالد بن علي المخيني في روايته (سمحة) إلى أن السفينتين سمحة والنايف التقتا في الطريق قريبًا من رأس حافون بالصومال، وطلب نوخذا سمحة من نوخذا النايف تزويدهم بماء بسبب الاستهلاك الكبير له في الأيام الفائتة من قبل الركاب، وكان (النايف) دون ركّاب عدا طاقم السفينة وعددهم (16) بين نوخذة ومقدّمي وسكّوني، وبحّار، ونجّار، وطبّاخ، ولديه ما يكفي ويزيد عن حاجته من ماء، بينما سمحة مزدحمة بالمسافرين.
ويضيف المخيني أنه وبعد انتهاء عملية التحميل، أراد نوخذة (النايف) الانصراف بسرعة، إلا أن النوخذة ناصر بن سيف طلب (السنيار) أو الرفقة في الطريق، ولم يكن علي الخيّال ليرد عرفًا قديمًا وإلا فستكون سابقةً بين النواخذة، واضطر (النايف) لأن يخفض سرعته مجاراة لسمحة التي كان مسيرها بطيئًا بسبب ضعف المحرك، ولا فائدة ترجى من الأشرعة لخفوت الريح بعد تجاوز القرن الأفريقي، واستمرت مسيرة السفينتين عدة أيام حتى وصولهم إلى جزيرة السوداء من جزر الحلانيات.
ويذكر الوستاد سبيت بن خميّس بن فرج العلوي، وهو أحد صنّاع السفن المعروفين في صور، وكان أحد طاقم السفينة برفقة أخيه المجدّمي جمعة بن خميّس بن فرج العلوي أن ربّان سمحة طلب من ربّان النايف أن يسايرهم نظرًا لعطل المكينة وعدم ملائمة الريح، حيث تم الالتجاء إلى عرق وارخ .
وهنا يشير الباحث خالد المخيني إلى أنه في منتصف نهار السابع عشر من ذي القعدة 1378هـ وبينما السفينتان تسيران ببطء شديد بمحاذاة (غبّة الشويمية)، زاد تغير الجو، وسادت حالة من ضعف الرؤية أحاطت بالمكان، وزادت كثافة السحب الركامية القادمة من ناحية الغرب، ثم غطّت السماء بأكملها في منطقة تدعى (الرأس الأحمر) نسبةً إلى جبلٍ أملس تمامًا، وأقبل الظلام قبل أوانه، وتزايدت أمواج البحر، وبعد ساعة كانت الأمواج الهائلة تضرب سطح السفينتين بشكلٍ قوي، وبقي الحال هكذا حتى عصر اليوم الثاني عندما اتفق الربانان على إلقاء المراسي في تلك البقعة، وبعدها هطل مطرٌ غزير وانقطعت مرساة سمحة بينما مياه البحر والأمطار تدخل بطنها بكمياتٍ كبيرة، وسقط جزء من الصارية على سطح السفينة مدمرًا الجانب الأيمن منها، وتضاعفت سرعة الرياح وبدأت السفينة في دخول قلب الاعصار.
لاحظ (النايف) ابتعاد (سمحة) فأقبلوا نحوها محاولين سحبها، لكن لم يكن الاقتراب سهلًا، وكانت الرياح العاتية تحول دون ذلك، وبدت المحاولات مستحيلة، وتحركت سمحة مبتعدةً وسط الرياح والأمطار الغزيرة.
وهنا يتجلّى المخيني على لسان راويته في وصف المشهد الأخير:
الأمطار زادت غزارتها وكأن السماء أمست قربة ماء هائلة شقّت طولًا بخنجرٍ حاد، الرياح ترقص رقصة الجنون دونما توقف، وأصواتها عويل عجائز إثر جائحةٍ عظيمة، سمحة في طريقها إلى حتفها المحتوم حيث تبدى لي الجبل موتًا عملاقًا باسطًا ذراعيه يستعد لاحتضانهم .
أملٌ وأمل..كتلة رمل تحدد نهاية النايف
في فجر يوم التاسع عشر من ذي القعدة 1378هـ كان الإعصار قد ولّى، وبعد الفجر بساعتين سكنت الرياح وهدأت ثورة الأمواج، وظهر شعاع الشمس بعد غياب، وأمر نوخذة النايف بإنزال (البلد) وهي أداة تستخدم لقياس الأعماق، لمعرفة العمق حيث وجده أحد عشر باعًا، فأكمل الابحار مطمئنًا بالاتجاه نفسه، وما هي إلا لحظات حتى اهتزت السفينة إثر اصطدامها بظهرٍ رمليّ من الأمام كان مغمورًا تحت الماء، وعندما بدأ البوم يميل أنزل الطاقم قوارب السفينة متزودين ببعض الأساسيات من الماء والتمر، ولحسن الحظ لم يكن البوم يحمل أي مسافرين بسبب عدم توقفه في ميناء زنجبار بطريق عودته، ثم قفز البحارة سابحين نحو الشاطئ القريب بينما (النايف) يرى من بعيد مائلًا يتسرب الماء إليه من كل جانب.
النجاة والعودة إلى صور
عند وصولهم إلى الشاطئ استقبلهم بعض من البدو من سكان المنطقة حيث قدموا لهم بعض المؤونة، وفي صباح اليوم التالي انتقل طاقم النايف عن طريق الإبل إلى الداخل حيث اقتربوا من معسكر لإحدى الشركات العاملة هناك، وتم استقبالهم بشكلٍ لائق، وبعد يومين مكثوها هناك، انتقلوا عن طريق سيارات الشركة من نوع البيدفورد إلى ثمريت، وبعدها بليلة وصلوا إلى صلالة، ومنها عن طريق البحر إلى صور بعد أسبوعين من الانتظار، وذلك عبر بومٍ صوريّ كان قادمًا من اليمن حاملًا شحنةً كبيرة من البن.
عودة الصارية
ذكرنا أن نوخذة البوم (النايف) وطاقم السفينة كانوا قد تركوها بعد اصطدامها بعرقٍ رملي وجنوحها دون أن يحملوا معهم سوى ما يسد رمقهم من الماء والتمر، وبقيت السفينة بما تحمله تصارع الأمواج والرياح وحدها.
وعلى الرغم من توالي السنوات ومرورها، إلا أن أصحاب السفينة كان يحدوهم الأمل في أن يجدوا يومًا ما شيئًا يذكرهم بها، ويستعيدوا معه بقايا أمجادٍ بحريةٍ صنعها أفرادها خلال سنواتٍ.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة أثير الإلكترونية




