إنه الكريسماس، أو زمن ميلاد السيد المسيح، ذاك الذي أفرغته العلمانية الأممية من معناه ومغزاه الروحي، وحولته إلى مواسم للبيع والشراء وتبادل الهدايا، مما ذهب بنا بعيداً جداً عن حالة "الفقر الإنجيلي" والزهد الروحي التي دعا إليها المسيح نفسه طوال سنوات حياته القصيرة على الأرض.
لا بأس من أن يكون هناك الشق المادي، في أحاديث الميلاد، غير أن واقع الأمر يقطع بوجود جانب روحي لا يمكن نسيانه، وربما هذا بالنسبة إلى العوام.
أما النخبة الباحثة، المحققة والمدققة، فربما تشغلهم وبعد ألفي عام ونيف من ميلاد المسيح، عديد من التساؤلات التاريخية، لا من باب التشكيك في الحدث نفسه، حاشا لله، فقد أقرت به الكتب السماوية، بل من جانب بعض القضايا التاريخية المختلف من حولها.
على سبيل المثال لا الحصر: متى ولد المسيح على وجه الدقة من الناحية التاريخية، لا سيما في ظل الخلاف حول موعد الكريسماس بين الشرق والغرب؟ هذه مسألة تخضع دوماً للبحث والدرس، ولم يخلص أحد إلى وجهة نظر قاطعة أو إجابات شافية وافية في شأن الأمر.
هل ولد المسيح صيفاً أم شتاءً؟ هذه أيضاً جزئية مثيرة للشقاق الفكري، بين فريقين، أحدهما يرى أن ميلاده كان في الشتاء، فيما آخرون يقطعون بأن الأمر جرى في الصيف.
هناك جزئية أخرى، تتعلق بالتاريخ، وهل ولد بالضبط قبل 2024 عام بحسب التوقيت الميلادي الحالي، أم أن هذا التاريخ مشوب بأخطاء بعينها في حسابات السنين والأزمنة.
من بين التساؤلات مكان الميلاد، وهل هو بالفعل بيت لحم، أم مدينة الناصرة، وهما من المدن اليهودية القديمة في ذلك الوقت.
وعلى هامش الميلاد هناك عديد من الأمور البحثية المهمة، من نوعية البحث عن المسيح التاريخي، وهل هو شخصية حقيقية تكلم عنها المؤرخون من الرومان واليهود، أم أنه شخصية وهمية كما يزعم كثير من الملاحدة بنوع خاص؟
وإلى جانب هذا وذاك تبقى هناك بعض القصص الأكثر إثارة، لا سيما ما يختص بالنجم الذي ظهر في بلاد فارس "ميزوري"، وهل كان بالفعل نجماً معروفاً، أم أن الأمر هو انفجار كوكبي بعيد ظهر ضوؤه على سطح كوكب الأرض؟
ثم خذ إليك قصة المجوس، أولئك الحكماء الذين جاءوا من بعيد، من بلاد فارس، وديالكتيك الأحداث بينهم وبين هيرودس الحاكم اليهودي الموالي للرومان.
من أين لنا أن نبدأ هذه القراءة البحثية التاريخية؟
متى ولد المسيح تحديداً وتدقيقاً؟
الثابت أنه لم يُذكر تاريخ ميلاد المسيح في الأناجيل على وجه الدقة التاريخية، ومع ذلك يعتقد علماء الكتاب المقدس والمؤرخون القدماء أن حدث الميلاد قد جرى في الفترة ما بين 6 و4 قبل الميلاد، وذلك عبر استخدام طريقتين رئيستين لتقدير عام ميلاد المسيح، إحداهما تعتمد على الروايات في الأناجيل عن ولادته مع الإشارة إلى حكم هيرودس، والأخرى من خلال طرح عمره المذكور "نحو 30 عاماً"، عندما بدأ رسالته العلنية.
وفي غياب أي إشارات كتابية إلى اليوم الذي ولد فيه المسيح تاريخياً، اقترح المعلمون المسيحيون الأوائل تواريخ مختلفة غير التي نعرفها في حاضرات أيامنا.
على سبيل المثال اختار البابا كليمنت أحد الأحبار الرومانيين الأوائل تاريخ الـ18 من نوفمبر (تشرين الثاني)، بينما اعتقد أسقف روما الشهير هيبوليتوس أن المسيح لا بد أن يكون قد ولد الأربعاء، وذلك عبر وثيقة مجهولة المصدر، يعتقد أنها كتبت في شمال أفريقيا نحو عام 243م، وهناك في واقع الأمر عديد من الروايات المشابهة.
غير أن بعضاً من التحقيق والتدقيق لما ورد في الأناجيل، يخبرنا بوضوح أن الـ25 من ديسمبر (كانون الأول) ذاك الذي يجري فيه الاحتفال بالكريسماس رسمياً، لا يمكن أن يكون تاريخ مولد المسيح لسببين رئيسين:
** نعلم أن الرعاة كانوا في الحقول يحرسون قطعانهم في وقت ميلاد المسيح بحسب النص الإنجيلي كما كتبه لوقا البشير في الإصحاح الثاني.
اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هنا لا يمكن أن يكون المولد في الشتاء، لأن جبال فلسطين تاريخياً في هذا التوقيت تكون عرضة لهطول الثلوج، ولم يكن للرعاة أن يرعوا قطيعهم في الليل البارد، وعليه فإنه غالب الأمر أن الميلاد كان في أواخر الصيف أو أوائل الخريف، حيث الأجواء المناخية تسمح للرعيان بذلك.
** جرى الميلاد على هامش ما عرف بالتعداد الروماني، الذي أمر أوغسطس قيصر بإجرائه ليعرف تعداد سكان الإمبراطورية الرومانية حول العالم.
هنا المؤكد تاريخياً أن مثل هذا التعداد كان يجري في فصل الصيف لا الشتاء، أي في ظل أجواء مناخية دافئة تسمح بالحركة في طريق فلسطين القديمة غير المهيأة للسفر الطويل، فما بالنا إذا كانت هناك أمطار أو ثلوج.
وفي وقت لاحق من القرن الرابع الميلادي، أقر بعض الكتاب المسيحيين، بأن عيد الميلاد يتزامن مع الانقلاب الشتوي، ورأوا أن الأيام الطويلة بعدها، ترمز إلى دخول السيد المسيح إلى العالم بأنوار محبته ورجائه وأمله في تغيير حال الخليقة البشرية القديمة وخلاصها من الخطيئة الأصلية، بحسب المفهوم الإيماني للمسيحية، وهذا ما قاله القديس أوغسطينوس، "لقد ولد المسيح في اليوم الأقصر في حساباتنا الأرضية، والذي تبدأ منه الأيام التالية في الازدياد طولاً، لذا فإن من رفعنا اختار أقصر يوم (25 ديسمبر)، ومع ذلك فهو اليوم الذي يبدأ مه النور في الازدياد".
هل تعني تلك الآراء المختلفة أن قضية تاريخ الميلاد غير مؤكدة حتى الساعة، وأنها تحتمل في ظل عالم الذكاء الاصطناعي أن تحسب عما قريب بطرق وحسابات رياضية متقدمة؟
مؤكد أن هناك كثيرين يعدون أن تحديد الـ25 من ديسمبر، لم يكن سوى وسيلة جديدة لاجتذاب كثير من الوثنيين الذين كانوا يعيدون لإله الشمس في ذلك النهار، وعليه جرى تحويله ليتوافق مع الفكر المسيحي عن مولد "شمس البر".
ولعله من نافلة القول إنه كما أن الزمان غير متفق عليه، فإن المكان نفسه ربما يثير بعض الخلافات عند مفكرين ومؤرخين مختلفين... ماذا عن ذلك؟
المولد في بيت لحم أم الناصرة؟
حملت التوراة، لا سيما السفر المعروف باسم سفر ملاخي النبي، تنبؤات عن مولد السيد المسيح في مدينة بيت لحم، تلك المدينة الفلسطينية التي تبرز عادة في الضفة الغربية في دائرة الضوء في هذه الأيام من كل عام.
نقرأ في الإنجيل بحسب القديس متى في الفصل الثاني قصة المولد في مدينة بيت لحم، تحقيقاً للنبوءات القديمة عند أنبياء اليهود.
غير أن هناك في واقع الحال أصواتاً تشكك في أن الميلاد قد جرى فعلاً هناك، ومن بين تلك الأصوات يأتي رودلف جلالفان أسترادا الأستاذ المساعد للعهد الجديد في كلية فولر اللاهوتية في باسادينا بولاية كاليفورنيا، وعنده أن القول بميلاد المسيح في بيت لحم لا ينبغي أن ينظر إليه باعتباره حقيقة تاريخية، بل باعتباره "تأكيداً لاهوتياً في شكل رواية تاريخية ظاهرياً". ويضيف، "أدى الاعتقاد أن يسوع كان من نسل داوود إلى تطوير قصة عن ميلاد يسوع في بيت لحم".
غير أن هذا الطرح يجد ردوداً عليه، لا سيما أن هناك كثيراً من الباحثين المعروفين بإلحادهم حاولوا مراراً تأكيد تهافت قصة بيت لحم، ومن بينهم جوناثان أم أس بيرس، الذي أصدر سلسلة متشككة بعنوان "فضح المهد"، وكذلك فعل جون دبليو لوفتوس المعروف بإنكاره للألوهية من الأصل.
توضح الردود أن هناك لبساً متعمداً عن هؤلاء، يجعل من قصة نشأة الطفل يسوع في الناصرة، هو السبب الرئيس في محاولة إنكار مولده في بيت لحم.
يقدم المفسرون رؤى مفادها أن المسيح كان بالفعل على وشك أن يولد في مدينة الناصرة، إذ عاش وعمل خطيب والدته القديس يوسف، ومع ذلك فقد جاء مرسوم أوغسطس قيصر، في زمن كرينيليوس الذي كان حاكماً على سوريا، ليجبر يوسف ومريم على الانتقال إلى بيت لحم وقت ولادة المسيح، وهذا ما يذكره لوقا البشير في إنجيله الإصحاح الثاني "فصعد يوسف أيضاً من الجليل من مدينة الناصرة إلى اليهودية إلى مدينة داوود التي تدعى بيت لحم لأنه كان من بيت داوود ومن عشيرته ليكتتب مع مريم خطيبته وهي حبلى، وفيما هما هناك تمت أيامها لتلد".
هل الدافع إلى إنكار مولد المسيح في مدينة بيت لحم أمر وراءه خلافات مع الفكر اليهودي الذي كان سائداً في ذلك الوقت؟
غالب الظن هذا ما يميل عدد كبير من الشراح إليه، إذ نقرأ في الموسوعة اللاهوتية "CATHOLIC ANSWERS" أن الدافع وراء إنكار نبوءة ميخا النبي عن ميلاد المسيح الحتمي في بيت لحم، هو الجدل اليهودي المضاد للمسيحية، بمعنى أن رفضهم قبول دعوة المسيح، هو السبب في التشكيك في ميلاده بهذه المدينة التي تقر التوراة بأنه سيولد فيها، ولهذا فإنهم يستخدمون الليبراليين اللاهوتيين، وكذا الملحدين من أجل التشكيك في مكان الميلاد، والذي هو بيت لحم، ذاك الذي صار معلماً عالمياً وأممياً للمسيحية منذ القرون الأولى، هناك حيث بنت الملكة هيلانة أم الملك الروماني والإمبراطور قسطنطين أول كنيسة للمهد في المدينة المقدسة بيت لحم.
على أن إنكار فكرة المولد في بيت لحم يستدعي ربما ما هو أكثر خطورة في التفكير المعاصر، إذ كل الأشياء قابلة للتشكيك وللنقد بمنظور تاريخي.
هنا سيكون التساؤل الأصعب هو هل وجد المسيح بالفعل في التاريخ الإنساني، هل كان شخصية حقيقية مرت في حياة البشرية قبل ألفي سنة تزيد قليلاً أو تنقص؟
هذه التساؤلات تفتح الباب واسعاً للتشكيك في "المسيح التاريخي"، بمعنى أن يكون هناك غير الزمن الماضي شخصية حقيقية اسمها المسيح عيسى بن مريم، وهذا فكر رائج لدى الكثيرين من مفكري الإلحاد المعاصر.
من هنا ربما ينبغي العودة إلى مشاغبة الرؤى التاريخية للمؤرخين المعاصرين في القرن الأول الميلادي، وسواء كانوا من الرومان أصحاب السلطة هناك أو من اليهود المعاصرين.
المسيح شخصية تاريخية أم وهمية؟
هناك في واقع الأمر اثنان من كبار المؤرخين، واحد يهودي وآخر روماني، هما من يأتيان على ذكر المسيح كشخص تاريخي عاش بالفعل في الزمان والمكان.
الأول هو المؤرخ اليهودي الكبير فلافيوس يوسيفوس المولود عام 37 بعد الميلاد.
يقدم فلافيوس معلومات عن بعض الأشخاص والأحداث الموجودة في.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية