مدن مهجورة تظهر لك كما هياكل الشعاب المرجانية البيضاء على طرفي الطريق الطويل الذي يتعرج من دمشق شمالاً. تمر بك مشاهد الدمار ميلاً بعد ميل، كما لو أن الصورة تعيد نفسها بلا كلل: دمار شامل يتواصل بشكل شبه عصي على الاستيعاب.
تمر أمام الرائي مدن وبلدات وقرى فارغة من أهلها، بعد أن كانت تعج بالحياة في يوم من الأيام، باتت ندوباً تشهد على حرب أهلية وحشية ودموية دارت رحاها 13 عاماً. 13 عاماً من محاولات حثيثة قام بها رئيس هو بشار الأسد، لكسر إرادة شعبه وإرغامه على الإذعان له على وقع القصف.
ولا يضاهي حجم هذا الدمار سوى عمليات القتل الجماعية التي رافقته داخل السجون وأفرع المخابرات وغرف التعذيب. وقد بدأ الحجم الحقيقي لهذه الفظائع يتكشف الآن مع العثور على عشرات المقابر الجماعية وتسجيل المفقودين في عداد الموتى وظهور البيروقراطية المرعبة لدولة دونت كل تفصيل بعناية وأودعتها خزائن ملفات تلفظها اليوم في كل أنحاء البلاد.
وقد يصح القول، إن هذا الحجم من القتل والتعذيب الذي اقترفته دولة بحق شعبها غير مسبوق في زمننا.
وقال لي مصور سابق في الجيش السوري منشق عن النظام، يحمل الاسم المستعار قيصر، في مقابلة نادرة معه من منفاه السري بعد إسقاط الأسد بتلك الطريقة المذهلة، "يجب أن يتذكر العالم بأسره أن الشعب السوري قاسى أبشع جرائم القرن الـ21".
قضى الرجل الذي لم يكشف أبداً عن هويته الحقيقية، سنتين في بداية الصراع في تهريب عشرات آلاف الصور خارج البلاد. فرضت عليه وظيفته أن يوثق جثث المعتقلين النحيلة التي تحمل آثار التعذيب والأمراض. أصبحت هذه الصور أدلة مرعبة وذات أهمية كبيرة على جرائم النظام وأدت إلى فرض بعض أشد العقوبات على الأسد.
في البداية، قد يبدو لكم زعمه بأن سوريا عانت بعض أكثر جرائم القرن الـ21 وحشية كلاماً فيه مبالغة، إلى أن تدخلوا أنتم أيضاً المشارح المكدسة بأجساد مشوهة لرجال ونساء وترون وجوهاً غائرة ملتوية رعباً كلوحة الصرخة. وإلى أن تقفوا أنتم أيضاً عند المقابر الجماعية حيث تشم الكلاب رائحة العظام الناتئة من تحت الأرض. وإلى أن تقفوا أنتم أيضاً في الزنازين التي تملؤها مياه المجاري تحت الأرض وتطلعوا على خربشات يائسة على الجدران خطتها أيادٍ ابتلعتها طيلة أعوام زنازين انفرادية ضيقة بلا نوافذ لا تتسع سوى كي يجلس المرء فيها القرفصاء.
وأضاف قيصر، "التقطت نحو 55 ألف صورة لأشخاص تعرضوا للتعذيب. وكل ذلك في مكان واحد فقط، في دمشق فحسب. كان هذا مجرد لمحة مقتضبة عن الزمان والجغرافيا والمكان... يمكنني أن أقول إن هذا كان يحدث في كل الأماكن الأخرى، لذلك إن أحصينا عدد الذين عذبوا حتى الموت حرفياً، ستبلغ الحصيلة مئات آلاف الأشخاص".
اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتردد صدى كلماته الثقيلة والقاسية في كلام بعض أبرز المدعين العامين الدوليين المختصين بجرائم الحرب، مثل ستيفن جاي راب، وهو مدع عام دولي مرموق لجرائم الحرب وسفير أميركي سابق فوق العادة لشؤون جرائم الحرب يعمل مع منظمات متعددة من أجل توثيق المقابر الجماعية وتحديد هوية المسؤولين المتورطين بجرائم الحرب.
مركبات تشق طريقها وسط المباني المدمرة في بلدة جوبر السورية في الغوطة الشرقية في ضواحي دمشق (أ ف ب/ غيتي)
وقد صرح خلال زيارة إلى دمشق هذا الأسبوع بأن قتل وتعذيب الشعب السوري شيء "لم نر ما يضاهيه فعلياً منذ النازية". وقد تحدث إلي بعد زيارته مقبرتين جماعيتين اكتشفتا حديثاً فأضاف أن الأسد أطلق "آلة موت وإرهاب دولة" ضد شعبه طوال عقود من الزمن والأهم أنه وثق كل تفاصيلها.
وتابع بقوله، "إنه نظام مهووس بالتوثيق" وهو ما أذهله شخصياً. حدد راب نحو 100 مركز من فروع الاستخبارات العسكرية إلى السجون العادية، تحوي كميات ضخمة من الأدلة على ارتكاب هذه الجرائم، نوع من بيروقراطية تفصيلية وتوثق وتدين جرائمهم "حد الغباء" تقريباً.
وهو يؤكد لي أن ذلك هو الضوء في نهاية النفق. فهناك احتمال كبير بإحلال شكل من العدالة، إذا أمكن الحفاظ على الأدلة التي ليست في الحفظ الآن، وإن ساعد العالم سوريا على التصرف بسرعة. لكن كيف وصلنا إلى هذه النقطة؟
قبل ديسمبر (كانون الأول) الجاري، كانت سوريا قد تلاشت من ذاكرة العالم تقريباً. في البداية، تركزت العناوين على ثورة عام 2011 التي سرعان ما تحولت إلى حرب أهلية دموية، أولاً من خلال الثورة التي تلتها إراقة الدماء ثم بسبب أزمة اللجوء غير المسبوقة التي تمددت إلى أوروبا وبعدها ظهور "داعش".
أخذت القوى الدولية العظمى تنقب بين اللاعبين الذين ظهروا في البلاد الغارقة في الحرب، كي تحسم اختيارها. دعمت روسيا وإيران الأسد سياسياً وعسكرياً فيما اقتطعت تركيا منطقة تبسط فيها نفوذها في الشمال الغربي وراهنت الولايات المتحدة على القوات التي اختارتها، الفصائل التي يقودها الأكراد في الشمال الشرقي، ضد عدوها اللدود أيضاً: داعش.
وفي هذه الأثناء، وُلد جيل كامل من السوريين داخل مخيمات اللجوء، أو في المنفى أو في رحم الرعب داخل سوريا حيث أخذت آلة القتل الجماعية تشق طريقها بين صفوف الشعب. وتفاقم تطرف بعض الفصائل المسلحة.
بدأ اسم البلاد بعد ذلك يقترن شيئاً فشيئاً بالحرب. وكان أي حدث يقع فيها، مهما كان، ومهما بلغت أهميته الجيوسياسية، يُقابل بعدم اكتراث. أصبحت الحرب حتمية لدرجة أنها باتت أقرب إلى هوية البلد؛ وقد ترسخ في نفوس كثيرين الاعتقاد بأن لا شيء ممكن أن يتغير أو قد يتغير [الأمور عصية على التغيير وستبقى على هذا المنوال].
وهذا التسليم البارد الذي تضاف إليه المصالح الداخلية، أدى إلى إعادة استقبال الأسد حتى في الأوساط الخارجية: في نهاية المطاف عادت العلاقات إلى مجاريها بينه وبين دول عديدة في الشرق الأوسط، أرسلت سفراءها إلى دمشق. وفي مايو (أيار) 2023، صوتت جامعة الدول العربية من أجل إعادة عضوية سوريا إليها [عودة سوريا إلى الحضن العربي بعد تجميد عضويتها]. وكان من شأن عوائد السلام التي سيولدها هذا الوضع أن تسدد الضربة القاضية للثورة.
لكن بعد ذلك، وقعت أحداث ديسمبر. هبت مجموعة من فصائل الثورة لاستغلال فرصة سانحة، بقيادة الجماعة الإسلاموية هيئة تحرير الشام التي كانت مرتبطة بـ"القاعدة" في ما مضى لكنها نأت بنفسها عن ماضيها "الجهادي". فاقتحمت هذه الفصائل حلب وحماة وحمص إلى أن دخلت دمشق في نهاية المطاف. إذ أن روسيا غارقة في أوكرانيا والجماعات التي تدعمها إيران مثل "حزب الله" لا تزال تترنح من آثار صراعها المدمر مع إسرائيل فيما كان سكان البلاد يستميتون لحصول أي تغيير بعد أعوام من الحرب وعمليات الإخفاء القسري والمعاناة الاقتصادية.
ومن ثم، كانت مجرد قدرتنا جميعاً على دخول سوريا، ذلك البلد الذي منع دخول عدد كبير من الصحافيين الأجانب وظلت طلبات التأشيرة التي قدمها معظمنا إليه "قيد الدراسة" أعواماً طويلة، أمراً غريباً [مستهجناً]. كانت نقاط التفتيش التي يهابها الجميع والتي قطعت أوصال البلاد شبه مدمرة وفارغة. فيما تجد أكواماً من ملابس النظام العسكرية وقد ألقيت أرضاً بعد أن تخلص منها من ارتدوها ومركبات مصفحة محطمة مهجورة. وما وجدناه في المقابل، هو مقاتلان من الثوار من فصيل غير معروف يجلسان قرب نار مخيم ويحملان بنادق كلاشنيكوف، لوحا لنا بأيديهما وأذنا لنا بالدخول.
ساد شعور الغرابة نفسه في مواقع السجون والقواعد التابعة للنظام التي كانت تبث الرعب في القلوب في ما مضى. ومن بينها مجمع الحرس الجمهوري الذي يشرف على دمشق والذي شكل مقر القائد المخيف، اللواء بسام الحسن مستشار الأسد للشؤون الاستراتيجية الذي يُعتقد أنه المسؤول الرئيس عن برنامج الأسلحة الكيماوية في سوريا.
وداخل القاعدة العسكرية، أُلقيت أطباق فيها وجبات عدس أُكل نصفها أرضاً قرب.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية