«تيتلر» ونقْله الكُتب العلميّة والطبيّة إلى العربيّة

بينما كنتُ منشغلًا بمُطالَعة فهرس مُقتنيات المكتبة الملكيّة البريطانيّة العظمى، وقفتُ على عنوانِ كتابٍ في فنِّ الطبّ والجراحة، نَقَلَهُ من الإنكليزيّة إلى العربيّة المستشرقُ الإسكتلنديّ جون تيتلر، ونَشَرَهُ بعنوان «كتاب أنيس المشرِّحين في عِلم الطبّ» في كلكتا في العام 1836م، فخطرَ ببالي أنْ أبحث في سيرته ومشاغله العلميّة في بلاده وفي بلاد الهند الكبرى في زمن الاستعمار البريطانيّ.

من حُسن الحظّ أنّني وقفتُ على سيرته وترجمته في طائفةٍ من المقالات له ولغيره من تلك التي نُشرت في مجلّاتِ الجمعيّة الآسيويّة آنذاك، واستعنتُ بها في كتابة هذا المقال عنه. لم يكُن جون وحده مَن كرَّس جهودَه في تعلُّم اللّغات العربيّة والفارسيّة والهنديّة، وفي نقْلِ جملةٍ من الكُتب العلميّة والأدبيّة ما بين تلك اللّغات الشرقيّة والغربيّة، بل هناك طائفة من العُلماء والمُستشرِقين الغربيّين الذين تفرَّغوا لإنجاز تلك المهمّات العلميّة والثقافيّة، برعايةِ مجموعةٍ من المعاهد والكليّات والمدارس التي أُنشئت في دلهي وبومباي وكلكتا ومدراس، وغيرها من المُدن الهنديّة في عصر الاستعمار. إلّا أنّ ما تفرّد به جون عن أقرانه من المُستشرِقين هو إتقانه اللّغة العربيّة وإلمامه بآدابها، واشتغاله بها كتابةً وترجمةً. وهذه ميزة نادرة بين المُستشرِقين الذين اشتغلوا في العلوم العربيّة والإسلاميّة، حتّى بين أولئك الذين عاشوا مدّةً طويلة في البلاد العربيّة، إذ لم يَتّخذوا العربيّةَ لغةً لكتاباتهم على وجه العموم. غير أنّ جون تفرَّد بتعلُّمه العربيّة بعد وصوله إلى الهند، من دون أن تتوفَّر له البيئة العربيّة التي أُتيحت لغيره من أقرانه في عصر الاستعمار. وفي الواقع، عند عقْد المُقارَنة ما بين كفاءته العلميّة والطبيّة باللّغة العربيّة وبين أولئك المُستشرِقين المُعاصرين له في الهند، لا نرى فيهم أذكى خاطرًا، وأحسن فطْنة، وأغْور عِلمًا، وأجْود قريحة، وأظْرف أخلاقًا منه.

ولئن اتَّخذت الحكومةُ البريطانيّة الهنديّة تدابيرَ ووسائلَ عدّة لتعزيز اللّغة الإنجليزية وترويجِها ونشرِها بين السكّان الهنود المحليّين بغية تحقيق نتائج متنوّعة، فإنّها دَأبت أيضاً على تشجيع موظّفيها وعلمائها وأدبائها الأوروبيّين على تعلُّم اللّغات الشرقيّة والهنديّة، بخاصّة اللّغات: العربيّة والفارسيّة والسنسكريتيّة والهندوستانيّة، وأَغدقت عليهم المنح والامتيازات، وذلك لتحقيق مصالحها السياسيّة والثقافيّة والإداريّة. وقد ظلَّ التضلُّع من هذه اللّغات الشرقيّة ضروريّاً للتواصُل والتفاعُل الفعلي مع الخواصّ والعوامِّ على حدٍّ سواء، ثمّ إنَّ تعلُّم اللّغات المَحكيّة وإتقانها لأغراضٍ علميّة ورسميّة عامّة ليس كافيًا. ولا ننسى في هذا المقام أنَّ طبيعة الصلات والتفاعُلات بين الأوروبيّين والهنود كانت تعكس في الغالب علاقةً هَرميّة فَوقيّة؛ ما أَعاق تبادُل الأفكار أو الفَهْم المُشترَك، وعَزَّزَ الكراهية والازدراء المُتبادَل والعزلة أحيانًا. كما قامتِ التحفُّظات والحساسيّة حاجزًا أمام تكوين علاقة حقيقيّة مع العُلماء والأدباء والمتعلّمين المحليّين، إذ يميل الأوروبيّون من ذوي المكانة الرسميّة، وحتّى المثقّفون منهم، إلى تجنُّب مثل هذه الاتّصالات والعلاقات، ويُعزى هذا جزئيًّا إلى نقصِ الثقة في إجراءِ مُناقشاتٍ دقيقة وواسعة مع أولئك العُلماء والأدباء والمفكّرين الهنود. لذا، وُجب الاحتكاك والانسجام مع السكّان المحليّين كأندادٍ من ناحية، والإلمام العميق باللّغات والآداب والثقافات المحليّة من ناحية أخرى.

المقاصد السياسيّة والإداريّة

حينما نُعايِن المَسار العلمي والتعليمي للمُستشرِقين والمسؤولين الإداريّين الأوروبيّين في الهند، نلاحظ أنّهم ما كانوا يستطيعون اكتساب المهارات اللّغويّة والأدبيّة، وتوسيع نطاق الدائرة الثقافيّة واللّغويّة من دون الاستعانة بالعلماء والأدباء المحليّين. ومع ذلك، تَفتقر طائفةٌ منهم إلى الشغف بالدراسات اللّازمة، ويَنقص غيرَهم الإصرارُ والمثابرةُ والمواظَبة، ولم يكُن الوقت يُسعف آخرين لمُتابعة البحث والدراسة. وعليه، تقع مسؤوليّة هذا الانخراط اللّغوي والأدبي والثقافي إلى حدٍّ كبيرٍ على عاتق الأفراد الذين كان يقودهم إمّا حبٌّ شخصيٌّ للمعرفة، أو سعيٌ للتفرُّد. فقد تراوحت دوافع العُلماء الأوروبيّين لانخراطهم في الأدب الشرقي ما بين التسلية والتنوير الشخصي، والرغبة في توسيع المجموعات الأدبيّة الأوروبيّة بإضافاتٍ مُهمّة. وقد سعى علماءٌ وأدباءٌ ومؤرّخون إلى كشْفِ اللّثام عن تاريخ العصور الهنديّة القديمة ودراسة لغاتها وحضاراتها وفلسفاتها ودياناتها، مُستكشِفين جذور اللّغات والمعرفة العلميّة وحتّى الحضارة الإنسانيّة، في حين انصبَّت اهتماماتُ آخرين على فحْصِ التراث والتاريخ والتمدُّن الإسلامي، فضلًا عن معرفة أخلاق تلك الأُمم وعوائدهم وثقافتهم، وغالبًا ما كانت هذه المساعي العلميّة والأدبيّة تتماشى مع تحقيق الأهداف العلميّة البحتة من ناحية، وتحقيق المقاصد السياسيّة والإداريّة وغيرها من ناحيةٍ أخرى.

إسهاماتٍ جليلة

عند النَّظر في سيرة الطبيب والجرّاح جون تيتلر ومشاغله العلميّة والطبيّة، نَجد أنّه اتَّجه لدراسة اللّغات العربيّة والشرقيّة وآدابها رغبةً في اكتساب العِلم والمعرفة في المقام الأوّل، فضلًا عن تعزيز العلوم والآداب الإنجليزية في الهند بواسطة تلك اللّغات، وبخاصّة العربيّة والفارسيّة. كان جون عالِمًا شغوفًا بالأدب الشرقي وصديقًا حقيقيًّا لشعب الهند. وكانت إسهاماته في ميادين الطبّ والتعليم والثقافة عميقة.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من صحيفة الوطن السعودية

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من صحيفة الوطن السعودية

منذ 10 ساعات
منذ 11 ساعة
منذ 21 دقيقة
صحيفة الشرق الأوسط منذ 7 ساعات
صحيفة عاجل منذ 3 ساعات
قناة الإخبارية السعودية منذ 19 ساعة
صحيفة الشرق الأوسط منذ ساعة
صحيفة عاجل منذ ساعتين
صحيفة سبق منذ 10 ساعات
صحيفة سبق منذ 29 دقيقة
صحيفة سبق منذ 19 ساعة