أخرج الرَّجلُ بطاقته من الحافظة ودسَّها في الفتحة المُخصَّصة واختار كلمة سَحب، ثم دَوَّن المبلغَ وانتظر قليلًا؛ لكن شيئًا لم يحدث. أعاد الكرَّة مُمنيًا نفسَه بالنجاح، سجَّل مبلغًا أقلَّ لعله يُفلح، راح يُحاول مرةً بعد الأخرى؛ لكن محاولاتِه مُنيت بالفشل. ارتسَمت على ملامحه خيبةُ الأمل وتبدَّت هزيمتُه أمام الماكينة وَشيكة؛ فيما توجَّس الواقفون خلفه مِن مُواجهة المَوقف ذاته.
*
المَهزومُ في قواميس اللغة العربيَّة مفعولٌ به؛ صادف مَن تفوَّق عليه وغلبَه، الفعلُ هزمَ والمرةُ الواحدةُ منه هزيمةٌ، ويُقال لصوت الرعد: الهزيم، وهي قرقعةٌ عاليةٌ في السَّماء مصدرها اصطدام كتلٍ هوائيةٍ مُختلفة الكثافة ببعضها. المرءَ ما انهزم بات بنفسِه الفاعلَ ولا حاجة هنا لمفعولٍ به، أما الانهزام فمصدر.
*
إذا قيل شرُّ هزيمة؛ فتعبيرٌ شائع في سياق النِزال. طَرَفٌ قد أثبت وجودَه وجدارته، وآخر قد مُني بالخِزي وبدا مُهانًا. لا يُحب أحدٌ أن يستخدمَ المُفردات التي تدلُّ على ضَعفِه، وقد جرَّبنا من قبل أن نهربَ من سَوْط الكلماتِ فأسمينا الهزيمةَ نكسة، مُحاولين أن نخلقَ صيغةً غير جارحة؛ لكن المُسمَّيات لا تُغير في حقيقة الأمر شيئًا ولا تبدل الواقع.
*
يقول أحمد عبد المُعطي حجازي: مَن تُرى يحملُ الآن عبءَ الهزيمةِ فينا.. المُغنِّي الذي طافَ يبحثُ للحُلمِ عن جَسَد يَرتديه.. أم هو المَلك المُدَّعي أن حُلمَ المُغنّي تجسَّد فيه؟ المَجاز رائقٌ مُوجعٌ في آن، وفاضحٌ ما أُحِيلَ للحقبةِ الزَّمنية التي كُتِبَت القصيدةُ فيها، وما طُبِّق أيضًا على الآني.
*
الهزيمةُ السَّاحقةُ هي تلك التي يُجرَّد فيها الطرفُ المَهزوم من مُعظم مُقومات النُّهوض؛ لكنها ليست نهايةً حاسمة، وأكم من رياضيّين تعرَّضوا لوعكاتٍ وأزماتٍ كبرى أقعدتهم عن التدريب والاجتهاد، ثم كافحوا وتعافوا واستعادوا لياقتهم وأحرزوا المراكزَ والكؤوس، وتلقوا الإشاداتِ من هنا وهناك.
*
هناك من هزمَ مرضًا عضالًا، وظل في مَوقعه مُناطحًا وفاعلًا حتى النهاية، وهناك من هزم إعاقةً مُزمِنة وحقَّق مُراده وتفوَّق على الأصِحَّاء، ومن هَزمَ ظروفًا اجتماعية قاهرةً عَصيبة وتمكَّن من التغلُّب على خلطة استفحالِ الفقر وتقهقُر فُرصِ التعليم وغيابِ العدل، وخلق لنجاحه مسارًا لم يكُن مرئيًا. ثمَّة مَن لا يعرف اليأسَ ولا يقوّض عزمَه الإحباطُ؛ يقاوم حتى النهاية وقد يحوّل الهزائمَ بإصرارِه إلى انتصارات، وثمَّة مَن تهزمه مصاعبُ الحياة وتوقِف مسيرتَه سدودُها وحواجزُها؛ فيستلذُّ القُّعودَ والبكاءَ على اللبن المَسكوب. الحدُّ الفاصل بين هذا وذاك يتعلقُ بحضورِ الإرادةِ وإيمانِ المرءِ بما يفعل.
*
الانهزامِيَّة طبعٌ.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من جريدة الشروق