قديماً، قبل ما يقارب الألفين والخمسمئة عام، خرجت البشرية من طور التفكير الأسطوري والخرافي، إلى طور التفكير العقلاني المنهجي، مع نشأة الفلسفة، صديقة الحكمة، وراحت تنسج التصورات حول علاقة العالم المادي بالعالم الروحاني والفكري، على ضوء منهجيات عقلية متفاوتة، من أرسطو وأفلاطون وسقراط، وأفلوطين، وغيرهم. ظلت الفلسفة بعامة تعالج، وبنظرة متعالية، الشؤون الماورائية والكلية (الكونية) غافلة عن الشأن الإنساني المحض (الأنطولوجي)، باعتباره تفصيلاً غير "جوهري" من المنظور غير المادي.
وحين أقبلَ العربُ على التفكر الفلسفي، بدءاً من القرن التاسع (الثالث للهجرة)، ينهلون من المعين اليوناني نفسه، ويُخرجهُ كل منهم على رؤيته الخاصة، رأوا إلى الفلسفة على أنها "النظر إلى الوجود الضروري" واعتبار "معرفة النفس" هي المآل الأول لهذا التفكير (ابن سينا). واعتبر آخرون أن الفلسفة هي اعتمادٌ على الفكر في التدبر الفعال في الأشياء المادية التي يصادفها الإنسان" (ابن رشد). ولعل الرأي الأخير لابن رشد هذا أقرب إلى الفهم الأنطولوجي المعاصر للفلسفة. في حين اعتبر البعض الآخر أن الفلسفة هي "علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان، ما دام أن غرض الفيلسوف في علمه إصابة الحق، وفي عمله عمل الحق" (الكندي).
كتاب "الفلسفة هي الحاية" (دار روبير لافون)
في الكتاب الصادر حديثاً (2024) عن دار روبير لافون، للفيلسوفة الفرنسية غابرييل بوزو دي بورغو، وعنوانه "الفلسفة هي الحياة" تقول في مقدمته، ما معناه أن بمقدور الفلسفة أن تضيء على حياتنا اليومية، مثلما أضاءت على حياتها الشخصية. وأن الفلسفة هي رفيقة درب سرية وبينة الوفاء، وأن في ما يرويه المرء، على ضوء الفلسفة، الكثير مما يلامس الإنساني الكوني. وأردفت لاحقاً ما مفاده أن فلسفتها اليومية تقتبس بعضاً من أنوار فلسفة جان بول سارتر (الوجودية)، وبعضاً من نظرات سيمون فايل الواقعية (الماركسية) والروحية من أجل تعليل مفاصل أساسية في حياتها (حياة الكاتبة)، و"فهمها وفهم العالم" من حولها، على ما ورد في عنوان الكتاب الفرعي.
ينقسم الكتاب ثمانية أقسام، تتولى الكاتبة معالجة أغلب جوانب شخصية المتفلسف، أي شخصية الكاتبة، وأهم التساؤلات العميقة التي يحسن بها مساءلة نفسها عنها، على ضوء الفلسفة المعاصرة، وعلم النفس، والتواصل، والأدب، وعلم الاجتماع، وغيرها من المراجع ذات الصلة. ومن هذه الأقسام، أنا والآخرون، والتفكير في الجسد، ومنْ يخشى من الموت؟، والالتزام النسوي، وأن تتألم الحيوانات أو لا، ونظراتنا وعمانا، وكنْ (كوني) ذاتك (ذاتكِ)، ومنْ تراها أنا؟
أنا والآخرون
في المقالة البحثية الأولى التي تصدر بها الكاتبة والفيلسوفة دي بورغو كتابها، تختار أن تعالج شأناً يخص وجود الكائن، وجودها في علاقتها العاطفية مع الآخر، والآخرين من خلاله. فتبدأ بإقرار مسلمة كونية بأن لا حياة للفرد من دون آخر، وآخرين. وأن وعيَ وجود الإنسان ذاته، هو إدراك لحدوده. مع اعتبار أن الآخر لا يمكن أن يكون نسخة طبق الأصل عن الذات، حتى لو ارتبط به ارتباطاً عاطفياً وجنسياً حميماً. وبناء عليه، تقول المؤلفة بورغو أنه من الخطأ الذوبان في الآخر؛ ولئن تكون ثمة درجة عليا من اضطرام المشاعر، في العلاقة الجنسية بين الطرفين بحيث يشعر كلاهما بتقارب كبير في المشاعر، ولا سيما إذا كان أحدهما يصغي إلى الآخر إصغاءَ المحب الملهوف، فإنه يتجاوز الحد المعقول إذ يظن بأن لا حياة داخلية لهذا الآخر، وأن الاختلاط والتماثل بين نفسيهما حاصل بلا ريب.
أن يفكر المرء في جسده (موقع فلسفة)
وتورد الكاتبة في هذا السبيل فيلماً بعنوان "أساسي"، للمخرج بيتر سوهن، يدور حول علاقة شخصين من طبيعتين متنافرتين؛ الطبيعة المائية/ والنارية، بحيث لا يجرؤ أحدهما على ملامسة الآخر مخافة التفاني. ويخلص الفيلم إلى ابتداع الحبيبين كيمياء خاصة بهما، تحول دون فنائهما الواحد في الآخر. أما الخلاصة الفلسفية من هذا المثل، فهي أن الآخر هو الذي يحدد ذاتي، على حد قول الفيلسوفة بورغو. على أن مضمون هذه الهوية ماثلٌ بين حدين، على قولة المناطقة، حد وجود الآخر، وأفكاره، ومحظوراته، ونظرياته، وأحواله المادية والروحية، والحد الثاني عدم قبوله هذه الأفكار تلقائياً، وما ينجم عن هذا الرفض.
أن يفكر المرء في جسده
ثم تعرج الكاتبة على موضوع، لا يستسيغه، في الغالب، المشدود إلى الماورائيات، وهو وعي المرء، أو المرأة، جسدها. وقد نفذت إليه الكاتبة من طريق السرد الأليف بين الأم وابنتها، إذ رأتها ازدادت سمنة عما كانت عليه، وصارت تقترح عليها أن تمارس رياضة كرة السلة. في حين راحت الفتاة، المثال المقترح، والكناية على كل امرئ مراقب لجسده، تنظر بحسرة إلى أجساد زميلاتها الخفيفة والنحيفة، وتفكر في ما تفكر فيه أمها وما تقترحه عليها من طرائق لتنحيف الجسم. ولما أيقنت، هذه الفتاة، أن جسدها هو ملكها، وليس للآخرين، أياً كانوا، الكلمة الفصل في شأن هذا الجسد، قررت أن ترد على هذه العروض بما يناسب جسدها وإرادتها وميولها. ومن هذا الباب تدخل الكاتبة إلى التأمل الفلسفي في الفوارق بين المرأة والرجل، في ما يتعلق برياضة كرة السلة وبغيرها. فتقول، استناداً إلى دراسة أجرتها الباحثة الأميركية ماريون يونغ، إن الفتاة أو الأنثى بعامة تستخدم يديها وحدهما لدى تداولها كرة السلة ودفعها عنها، وتبقى أسيرة الحيز المعطى لها في اللعبة. بينما يقوى الفتى والرجل بعامة على استخدام جسده كاملاً، والتصرف بكامل حيز اللعبة المكاني. فتخلص إلى أن المرأة محكومة، لدى تصرفها بجسدها، بالنظرة الذكورية إليها، وبالآراء المسبقة التي تشكل نسيج المجتمع مقابلها.
من لا يخشى الموت الشرير؟
في الفصل الثالث، تبدأ الكاتبة غابريال دي بورغو موضوعها بسرد واقعة من سيرتها الشخصية، وهو موت.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية