لم يلمع أحمد عدوية وحده، كان إلى جواره كثيرون، منحوه مجده، لكنه احتل الصورة بمفرده، ولأنه كان يعرف ذلك، فقد كان وفيًا لهم يذكرهم ويتحدث عنهم، ولأن وهج نجوميته كان طاغيًا، فقد ظل عدوية مع كل ما قاله عنهم متفردًا بالنجومية وبالشهرة.
من بين هؤلاء نقف أمام ثلاثة نجوم، لكل منهم قصة وحكاية:
محمد عصفور.. ما بلاش اللون ده معانا
فى العام ٢٠١٨ عندما كنت أعمل على كتاب «كشك وعدوية» لم أكن أعرف أن محمد عصفور، صاحب أهم وأكثر ألحان عدوية، لا يزال على قيد الحياة، يعيش فى بيته بالمعادى.
كان عصفور عازف أوكورديون وملحنًا موهوبًا جدًا، يمكن أن تقرأ اسمه على أهم أغانى عدوية «ما بلاش اللون ده معانا- يا ليل يا باشا- سلامتها أم حسن- كركشنجى.... وغيرها».. ورغم أنها أغنيات مهمة وفارقة جدًا فى مسيرة أحمد عدوية، إلا أنه يحتاج إلى من يُعرِّف الناس به.
على أحد المنتديات الغنائية وجدت أغنية «يا واد يا منظوم»، تقول كلماتها التى كتبها حسن أبوعتمان «وله... يا واد يا منظوم/ وله... وله... وله... يا كايد الخصوم/ يا دارسهم أوى وفارسهم أوى/ وهاوسهم أوى... أوى أوى أوى وملو الهدوم».
فى التعليقات لفت انتباهى تعليقًا كتبه عبده عصفور يقول فيه: ألحان الفنان وعازف الأوكورديون محمد عصفور والدى، وهو حى يرزق ومعروف جيدًا لدى كبار فنانى الوطن العربى، وهو صاحب أكبر مدرسة فى الألحان الشعبية، وأحد صانعى نجومية الفنان أحمد عدوية.
على قدر العفوية التى فى كلام عبده عن أبيه محمد عصفور، على قدر الوجع الذى شعرت به، وكأنه رأى أن العالم لم يعترف بأبيه، أو يمنحه حقه، فقرر هو أن يتحدث عنه، ويُذكر به، ويقول للناس جميعًا إن الفنانين العرب يعرفونه جيدًا، ليس لأنه صنع نجومية عدوية فقط، ولكن لأنه صاحب مدرسة فى الألحان الشعبية.
لم يكن محمد عصفور صاحب مدرسة فى التلحين بالطبع، فما قاله عبده عصفور فى تعليقه ليس إلا تقدير ابن لأبيه، وطبيعى أن يكون مبالغًا بعض الشىء وهو ما لا نعاتبه أو نلومه عليه.
الواقع فعلًا يقول إن عصفور لم يكن له مريدون أو تلاميذ ساروا على نهجه فخلدوه، لكنه كان صاحب طعم وروح خاصة به، وتخيل أن عصفور هذا جعل الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب يغار منه.
لا مبالغة فيما أقوله لك على الإطلاق، وسأترك لكم أحمد عدوية نفسه يحكى لكم ما جرى.
بعد عامين من دخول عدوية الإذاعة قابل محمد عبدالوهاب هناك صدفة.
يقول عن ذلك: كنت ماشى فى الاستديو لقيت الأستاذ عبدالوهاب ومعاه أحمد فؤاد حسن، كانوا رايحين يسجلوا آخر لحن عمله الأستاذ للفنانة وردة، لمحنى فؤاد فهمس فى أذن الأستاذ: عدوية أهه، الأستاذ قال له: ناديهولى، رحت سلمت عليه، قال لى: ما أنت زى القمر أهه، ألا قل لى يا واد: مين اللى عمل اللحن بتاع خضر العطار.
كان عبدالوهاب يقصد لحن إعلان تليفزيونى شهير أداه عدوية يقول مطلعه: سلام عشان خضر العطار/ معروف تمام وزباينه كتار/ والجار يقول للجار/ أسعاره أرخص أسعار/ خضر العطار/ من أسوان لراس التين/ عارفينه طبعًا عارفين.
ويحكى عدوية ما جرى: لقيت عبدالوهاب معجب جدًا بالأغنية، وقال لى: يا ابن الكلب، أنت غنيت اللحن حلو قوى، قل لى مين عمله؟ فقلت له: ملحن متربى معايا فى الشارع اسمه محمد على محمد عصفور، قال لى: عايز أشوفه، وبعد كام يوم رحنا له أنا وعصفور فى بيت ابنه.
لحن عصفور لإعلان خضر العطار كان سرًا من أسرار عدوية، والغريب أنه عندما كان يُحيى أحد الأفراح أو يؤدى وصلته فى أحد الكباريهات، كانوا يطلبون منه غناء خضر العطار رغم أن الكلمات كانت لإعلان ولم تكن لأغنية من الأساس.
كان التعليق الذى كتبه ابن محمد عصفور فى ١١ أغسطس ٢٠١٢.
بحثت عنه بعد ذلك، فلم أجد له أثرًا إلا فى واقعتين.
الأولى كانت فى أغسطس ٢٠١٢، وبطلها مطرب اسمه مرجان، كانوا يلقبونه بمرجان مطرب الميدان، نسبةً إلى ميدان التحرير.
صرح مرجان لأحد المواقع الإلكترونية بأن الملحن المتميز محمد عصفور شاهده وهو يغنى فى أحد البرامج، فاختاره لمشاركة أحمد عدوية فى ديو وطنى «موال فى حب بلدى»، يلحنه عصفور بنفسه ومن كلمات الشاعر أحمد قدرى وتوزيع المايسترو محمد أبواليزيد.
والغريب أنه بعد هذا التصريح لم يظهر شىء على الإطلاق، فلم نسمع لديو «موال فى حب بلدى»، ولم يطل علينا محمد عصفور، ثم أن مرجان مطرب الميدان نفسه اختفى تمامًا، ولو جربت وبحثت على محرك البحث جوجل عن مصير هذا الموال، فلن تجد إلا خبرًا واحدًا فقط، وهو خبر التصريح الأول، الذى يبدو أنه كان الأخير أيضًا.
الثانية فى يناير ٢٠١٤ عندما كان عدوية ضيفًا على فيفى عبده، التى كانت تقدم برنامجها «أحلى مسا» على شاشة «إم بى سى مصر»، غنى عدوية «كركشنجى» وقال إنها من ألحان صديقه محمد عصفور، فعقبت فيفى: الله يرحمه، فرد عدوية على الفور: ربنا يديله طولة العمر.
دائرة ضيقة جدًا هى التى تعرف ما الذى فعله محمد عصفور فى حياة أحمد عدوية، لا يتجاهله المطرب الشعبى الكبير فى أحاديثه أو حواراته، لكنه يأتى عليه عرضًا فى حكاية من حكاياته أو طرفة من طرائفه، ثم ينتهى بعد ذلك كل شىء.
لم يفرض محمد عصفور نفسه على حياة عدوية وذكره وسيرته، كما فعل على أغنياته الشهيرة، لكن هناك مَن فعلها، أصبح اسمه ينافس اسم أحمد عدوية إلا قليلًا، بل إن هناك من يعتقد أنهما شخص واحد.
الريس بيرة.. السح الدح إمبو.. إدى الواد لأبوه
مؤكد أن الاسم صادفكم كثيرًا، يمكن ألا تعرف الأغنيات التى كتبها لعدوية أو حتى ما كتبه لغيره وهو كثير جدًا، لكنى فوجئت أن كثيرين ممن كنت أتحدث معهم عن سيرة المغنى ينسبون تقريبًا كل ما غناه عدوية للريس بيرة دون غيره من الشعراء وكتّاب الأغانى الذين تعامل معهم المغنى، الذى يبدو أن اسمه كان سببًا فى شهرته، ولست فى حاجة لتعرف أنه ليس اسمه الحقيقى، فاسمه الذى تحمله شهادة ميلاده هو خليل محمد خليل.
فى ٦ يونيو من العام ٢٠٠٨ توفى الريس بيرة، بعد أن ألقى عن كاهله ٨٦ عامًا قضاها فى حياة رسمها على مزاجه الخاص، منذ ظهرت موهبته فى كتابة الأزجال والمواويل وتلحينها وغنائها أيضًا، فلم يعكر صفوها أحد إلا قليلا.
كيف وصل خليل إلى الريس بيرة؟
هذه قصة طريفة من طرائفه الكثيرة، والفضل فى الأمر كله يعود إلى جدته، التى كانت تناديه بـ«بيرة» نسبةً إلى بئر العسل لسمار بشرته، عرفه أصدقاؤه منذ صغره بـ«بيرة»، بعضهم كان يعتقد أن هذا هو اسمه الحقيقى، ولما كوّن فرقته الموسيقى التى كانت تصاحبه وهو يغنى فى المقاهى والحفلات والإذاعة كانوا ينادونه بالريس، فأصبح «الريس بيرة».
قبل أن يلتقى بيرة بعدوية فى العام ١٩٧٢، كان خليل قد قطع شوطًا طويلًا فى أزقة الفن وحواريه، يمتد إلى ما يقرب من خمسين عامًا، أو بالتحديد ٤٤ عامًا، فقد بدأت رحلته مع الارتجال وكتابة الأزجال وتلحينها وعمره ٦ سنوات، عندما كان لا يزال يعيش فى حى الحسين الذى ولد فيه.
كتب الريس بيرة خلال حياته ما يقرب من ألفى أغنية، منها ما يقرب من ٤٥ أغنية منسوبة لشعراء وملحنين آخرين، ومن بين ما يحمل اسمه خارج دولة عدوية أغانى «يا واد يا جن» لكتكوت الأمير، و«يا أسمر يا سمارة يا أبو دم خفيف» لشريفة فاضل، و«يا قشر البندق» للمطربة اللبنانية طروب.
وإذا أردنا الحق، فهو صاحب الفضل الأول والأخير على عدوية، فهو الذى التقطه من تشرد شارع محمد على ووضعه على أول طريق النجوم، بأغنيته «السح الدح إمبو» التى لم تكن أبدًا عبثية.
ما رأيكم فى أن نسمع بدايات عدوية كما يرويها الريس بيرة.
جرى اللقاء فى بدايات العام ١٩٧٢، وقتها كان أحمد عدوية هو نفسه أحمد مرسى الذى يعرفه رواد مقاهى شارع محمد على، ويعمل طبالًا على الرق.
كان بيرة قد كتب «السح الدح إمبو» قبلها بسنوات، وكان الجميع يسمعونها منه، ولها قصة خاصة، وتخيل أن الأغنية التى صنعت مجد عدوية ووزعت أكثر من ٦ ملايين أسطوانة كانت وليدة الصدفة.
الحكاية نجدها عند بيرة.
حدثت بالتقريب خلال العام ١٩٥٢، طلب منه أحد أصدقائه أن يذهب معه إلى بيته، ليصلح بينه وبينه زوجته، جلس بيرة مع صديقه ودخلت الزوجة لتعمل له شاى، وتركت طفلها الصغير إلى جوار الريس بيرة، ويبدو أن الولد بكى، فأطلت الزوجة برأسها من المطبخ، موجهة كلامها لبيرة: إدى الواد لأبوه، لكن الأب الذى كان غاضبًا لم يستجب لزوجته، فوجد بيرة نفسه يقول: شيلوا الواد من الأرض، لحسن الواد يتخض، صعبان علىّ الواد.
خرج بيرة من بيت صديقه بعد أن أصلح بينه وبين زوجته، وكانت الأغنية قد اختمرت فى رأسه، فكتب السح الدح إمبو، وأكمل كلماتها، والمفاجأة أنه أخذ المطلع من أغنية كان يغنيها شكوكو بالفعل.
طلب عدوية من الريس بيرة أن يغنى السح الدح إمبو، فأخذه من يده وذهب إلى الشيخ طه عازف الأوكورديون وطلب منه تلحين الأغنية التى حفظها لعدوية، الذى كان يعمل وقتها فى ملهى شهرزاد مع الراقصة عزة شريف فى فرقة فتحية محمود.
قام عدوية بتسجيل الأغنية لصالح شركة صوت الحب، ومن بين ما لا يعرفه كثيرون- والرواية هنا على عهدة الريس بيرة وحده- أنه سافر بعد تسجيل الأغنية مباشرة إلى ليبيا طلبًا لعمل ينقذه من الضياع الذى يعانيه فى القاهرة، لكنه عاد سريعًا بعد أن فشل هناك، ليجد أن الأغنية كسرت السوق، وتم الإعلان رسميًا عن مولد المطرب الشعبى أحمد عدوية.
هل كان عدوية مخلصًا للريس بيرة؟
سؤال يبدو غريبًا، خاصة أن المغنى الشعبى كان طوال الوقت يتحدث كابن بلد حقيقى يحفظ الجميل لمن ساعدوه ودفعوه إلى الأمام، يشير إليهم من آن لآخر، لكن يبدو أن هناك ما عكر الصفو بين عدوية والريس بيرة.
فى العام ٢٠٠٨ قررت المطربة اللبنانية «دومنيك» أن تغنى «السح الدح إمبو»، ولما فعلت ذلك غضب عدوية وبدا أنه معترض على المطربة التى غنت أغنيته الشهيرة دون أن تحصل على إذن منه، وهو ما أثار دهشة واستغراب الريس بيرة الذى كان يعيش أيامه الأخيرة، واستنكر فى تصريحات صحفية غضب عدوية، إذ إنه الأب الشرعى للأغنية ولم يغضب رغم أن دومنيك لم تحصل على إذن منه أيضًا.
هل جرى نزاع بين عدوية والريس بيرة على «السح الدح إمبو»؟
هناك من يشير إلى ذلك، بل ويؤكد أن النزاع وصل إلى القضاء، لكن يبدو أن الأمر حسم للريس بيرة، والدليل أن الأغنية لا تزال تحمل اسمه إلى الآن.
كان الريس بيرة يعرف قدر نفسه جيدًا، قال مرة إنه أفضل من شكسبير، وأعتقد أنه كان يصدق ذلك جدًا، ولذلك عاش سعيدًا، ولم يكن فارقًا معه أن يعترف عدوية به أو يتنكر له.
«حسن أبوعتمان».. جينا نقعد شدوا الكراسى
بحثت عن «حسن أبوعتمان» كثيرًا، هناك معلومات متناثرة عنه فى تقارير صحفية وصور قلمية حاول أصحابها أن يظهروا وكأنهم يعرفون كل شىء عنه، لكنى عثرت على ما أعتبره كنزًا، حوار مع أولاده الثلاثة «محمد وكريم وأخلاق»، نشرته مجلة «صباح الخير» فى ٦ سبتمبر ٢٠١١.
وقبل أن تتوقف عند اسم ابنته «أخلاق»، سأقول لك إن لهذا الاسم قصة، كما لكل شىء فى حياة شاعر عدوية الأكبر قصة وحكاية.
أحب «حسن أبوعتمان».....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الدستور المصرية