تبدو كلمات مثل "باشا"، و"بك"، و"معاليك" حاضرة بصفة مستمرة على ألسنة المصريين في حياتهم اليومية، موجهة على السواء لذوي المناصب الرفيعة والسلطة والحيثية، وكذلك يخاطب بها العمال زملاءهم، إذ أصبحت تشبه هذه الكلمات في سلاستها وعاديتها وفقاً للعرف الاجتماعي بينهم ألفاظاً مثل "أسطى"، و"معلم"، و"زميلي" وغيرها، كذلك تنتشر بصورة ملحوظة بين أروقة المؤسسات الحكومية التي يتعامل موظفوها مع الجماهير بصورة دائمة.
هذه الاعتيادية في استخدام كلمات ذات مدلول معين، ارتبط قبل نحو 70 عاماً بكبار الموظفين والأعيان وأصحاب الجاه والمال وسليلي الأسر الملكية، جعلتها تفقد ما ترمز إليه على نحو دقيق، كما تصبح في أحيان أخرى مرادفاً ساخراً وليس تشريفياً. هذا التداخل في معانيها ربما جاء بعد مرور عقود طويلة على إلغائها، مقابل استمرار تداولها بين الناس، فارتبكت الأفكار التي تثيرها في الذهن وفقاً للموقف.
لكن على رغم كل هذه المفارقات، فإن هذا الحضور الكبير والمتوارث لألقاب ورتب مدنية، شاع وصفها بين رواد ثورة يوليو (تموز) 1952 بأنها علامة واضحة على الطبقية ومعاكسة لتوجهات العدالة الاجتماعية، من ثم جرى حظرها منذ 72 عاماً، يشير إلى أنها تحظى بشعبية أو ربما تبدو سهلة ويسيرة على اللسان، وتختصر دلالات بعينها بحسب ما تقتضيه الحال، أم ربما لأنها كانت صعبة المنال وكانت حلماً لدى كثيرين، إذ كان الحصول على تلك الرتب بصورة رسمية يتطلب مكاتبات ومشاورات وأموالاً طائلة بحسابات ذلك الزمن، بقيت ماثلة في الأذهان من جيل إلى آخر، لتصبح في متناول الكل، بعد أن كان ينص القانون على حبس من يمنح هذه الصفات على سبيل المجاملة والتباهي بصورة غير رسمية وموثقة.
وفي حين كانت هذه الألقاب والرتب جزءاً أساسياً في الحياة المصرية، لا سيما السياسية ومن ثم الاجتماعية، إذ استخدمت بصورة أساسية للتمايز والتفرقة بين الطبقات والمستويات المختلفة مما يؤثر في حسابات النسب والمصاهرة، فإن تنظيمها جاء على مراحل، فقد كانت حتى منتصف العقد الثاني من القرن الـ20 تمنح فقط من قبل الباب العالي، أي السلطان العثماني، وكان أبرزها لقب "الخديوي" أو "والي مصر" أو "عزيز مصر"، وكان يقترن عادة بلفظ "فخامة"، ويكون حصراً على حاكم البلاد.
لكن بعد وقوع مصر تحت الانتداب البريطاني عقب الحرب العالمية الأولى، أصبح من حق سلطان مصر ومن ثم ملكها منح هذه الرتب وفق شروط وضوابط وقوانين جرى تعديلها أكثر من مرة في أعوام 1915 و1923 و1931.
ووفقاً لما جاء على الموقع الرسمي للملك فاروق، آخر ملك مصري، فإن هذه الرتب كانت تعد طموحاً يسعى الجميع للوصول إليه، وهي تأتي في مكانة أقل من ألقاب أخرى كانت خاصة بعائلات بعينها، مثل "الأمير" أو "الأميرة"، التي كانت تطلق على أشقاء الملك وأبنائه وأزواجهم وذريتهم. كما شاع لقب "النبيل" و"النبيلة" في هذه الأسر كذلك.
بين الإرث الطبقي و"تخليص المصالح"
تعتقد جيهان النمرسي أستاذة علم النفس الاجتماعي بجامعة الأزهر، أن تمسك المصريين بهذه الألقاب "نابع من تغلغلها في تراثهم الشفاهي المحكي". مشيرة إلى أنها "تحولت بمرور الزمن إلى لغة عامة تستخدم لتسهيل التعاملات، خصوصاً في المصالح الحكومية، وليس لها علاقة مباشرة بالإرث الطبقي بصورة مباشرة".
وتضيف النمرسي أن تعبيرات مثل "يا سعادة الباشا"، "سعادة البيه"، و"معاليك"، هي نوع من الاستسهال في المخاطبة، مثل مناداة الميكانيكي الذي يصلح السيارات بلقب "باشمهندس"، أو أن يخاطب السايس أو العامل السيدات بكلمة "دكتورة"، لتجنب استخدام ألقاب قد تثير حفيظتهن مثل "مدام"، في ظل جهله بكنيتهن أو مهنتهن.
وتتابع أستاذة علم النفس الاجتماعي، "استخدام هذه الألفاظ عادة ما يأتي من الطبقة تحت المتوسطة وطبقة العمال الذين يتعاملون في حياتهم مع موظفين كبار أو أشخاص من طبقة اجتماعية عالية بصورة ملحوظة، فيلجأون إلى كلمات البك والباشا لتسهيل أمورهم، نظراً إلى جهلهم بوضع من يتحدثون معه ولتوقيره". مشددة على أن مدلولها الحقيقي ومعناها الدقيق الذي عرفت به قبل الثورة "لم يعد موجوداً في الذاكرة، لكن وقعها في الوقار والتفخيم لا يزال سائداً بالطبع".
وبحسب الدراسة التاريخية التي قدمتها الباحثة أسماء أبوزيد سلامة بكلية السياحة والفنادق، جامعة قناة السويس، حول الديوان الملكي المصري، فإن مسألة منح الرتب والنياشين كانت ذات أهمية كبرى، حتى إنها كانت تستخدم لتقوية سلطات ونفوذ الملك وإحكام قبضته.
وذكرت أبوزيد مثالاً عن رئيس الديوان الملكي محمد توفيق نسيم الذي تولى رئاسة الوزراء أيضاً أكثر من مرة، إذ استشهدت بوضع نسيم قيوداً إضافية في ما يتعلق بشروط إنعام الملك فؤاد الأول على الأفراد بهذه الامتيازات خلال العشرينيات من القرن الماضي، وذلك في سبيل توسيع سلطات الملك في ما يتعلق بمنحها لتكون حكراً على المقربين منه فحسب، ومن يرضى عنهم، وذلك لعرقلة أي تدخلات حكومية في هذا الشأن وتقويض أي مشاركة لهم بهذه العملية، خصوصاً حينما لا يكون رأس الحكم راضياً عمن يتولى رئاسة الوزراء.
وسيلة للترقي الطبقي
هذه الأهمية كان معترفاً بها في المجتمع بصورة كبيرة للغاية، وفقاً لما تؤكده استشاري العلاقات الأسرية.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية