تبدو إمبراطورية فلاديمير بوتين المتداعية في طريقها إلى الانهيار، إذ كانت قوته كزعيم تعتمد على سيطرة موسكو على الموارد الطبيعية، ونفوذها العالمي، وجيشها النووي القوي، إلى جانب ثقته في قدرته على التفوق على خصومه بشبكة من الحلفاء، لكن تبين أن هذه الشبكة هشة، إذ تسللت إليها "السرقة المتفاقمة"، بحسب ما تصفها المؤرخة آن أبلباوم، وبعد ربع قرن من حكم بوتين، أصبح واضحاً أن روسيا الأم تعاني الفساد نفسه الذي أنهك حلفاءها.
كل الإمبراطوريات تسير في مسار مشابه من الانهيار، إذ سقطت روما الغربية بسبب الهزائم العسكرية على حدودها، والأزمة المالية الناتجة من نفقات الحرب، ونقص الأيدي العاملة، وتجاهل البنية التحتية المحلية، وقسوة التعامل مع الأراضي المحتلة، وكذلك، بدأت إمبراطورية هابسبورغ بالتفكك على أطرافها المهملة، وكان اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند في سراييفو عام 1914 إحدى علاماتها، واليوم، يجسد بوتين بوضوح مفهوم "التوسع الإمبراطوري المفرط"، مما يدفع إمبراطوريته إلى الانهيار الحتمي.
هناك سؤال عملي للغاية يجب معالجته مفاده هل يشير انهيار نظام الأسد (ورحيل الديكتاتور الذي جرى التفاوض عليه بكلفة باهظة إلى موسكو) إلى مستقبل راعيه في الكرملين؟ لم تعد المحادثة تدور حول طموح بوتين الاستراتيجي، من توسيع نفوذ روسيا في استغلال المعادن النادرة في أفريقيا، إلى تفكيك الهيكل الأمني لأوروبا، أو دوره المركزي في استغلال التغيرات السياسية في القطب الشمالي الذائب، أو تأثير الهيمنة الروسية - الصينية على الأرض وفي الفضاء، خصوصاً مع انكماش الإدارة الأميركية الجديدة داخل قوقعة جيوسياسية.
والقضية الملحة الآن هي: من سيكون التالي على قائمة الضحايا بعد الأسد؟ وكيف ستزال طبقات الحماية التي تحيط ببوتين؟
ردود فعل الكرملين تجاه التحديات
الرهان الأقرب هو على التدمير الذاتي السريع لألكسندر لوكاشينكو، حاكم بيلاروس منذ عام 1994، ويستعد الآن لإجراء انتخابات رئاسية وهمية أخرى في نهاية يناير (كانون الثاني) الجاري، فخلال الانتخابات الأخيرة في أغسطس (آب) 2020، أي قبل 18 شهراً من الهجوم الروسي على أوكرانيا، قدمت موسكو نصائح لحليفها حول كيفية قمع الاحتجاجات، لكن هذه المرة، يدعو قادة المعارضة في بيلاروس أنصارهم إلى التحلي بالصبر، إذ من المتوقع أن تكون كيمياء المعارضة ضد بوتين ولوكاشينكو مختلفة، مما يتطلب توجيهات استراتيجية يصعب تقديمها من داخل الزنازين.
واليوم يعتمد مستقبل نظام مينسك بصورة كبيرة على الشروط التي يمكن إنهاء حرب أوكرانيا بها، فإذا اتهم بوتين من قبل منتقديه القوميين المتشددين داخلياً بعقد صفقة ضعيفة مع الغرب، فقد يضطر إلى إظهار قوته بطرق أخرى، ربما من خلال زيادة القمع على البنية التحتية في روسيا وبيلاروس.
حتى الآن، صمد لوكاشينكو بفضل دراسته الدقيقة لتحركات بوتين، واستباقه ردود فعل الكرملين تجاه التحديات الخارجية والداخلية. ولا يوجد فريق من محللي وكالة الاستخبارات المركزية يراقب بوتين بقدر ما يفعل حليفه الأقرب في مينسك، لكن السؤال الآن، هل سيظل لوكاشينكو قادراً على الاعتماد على دعم موسكو في أوقات الأزمات؟ أم أنه سينتهي به الأمر إلى العيش في شقة معزولة بجوار عائلة الأسد، مستفيداً من ثروته المخفية؟
الرئيس الأوكراني المقال فيكتور يانوكوفيتش يعيش بالفعل في ضاحية روبليوفكا الفاخرة بموسكو، إذ وضعه بوتين في حال استعداد لاستعادة الرئاسة الأوكرانية بعد الهجوم الفاشل على كييف في فبراير (شباط) 2022. ومن المتوقع أن ينضم آخرون إلى هذا المشهد عام 2025، وربما يكون بينهم الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، الذي يزداد يأسه، ويبدو أن المركز الإمبراطوري الروسي بدأ يشبه نسخة مترفة من مسلسل "إيست إندرز" البريطاني، مع صراعات دموية وخلافات لا تنتهي.
وقد ينضم إلى هذه "الدراما" خلال العام المقبل بعض قادة حزب "الحلم الجورجي" الموالي للكرملين، الذين أشعلوا التوترات في بلادهم بسبب اتباعهم الأعمى لتوجهات بوتين، وبعد مزاعم بالتلاعب في الانتخابات في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تقول المخرجة الجورجية آنا جاباريدزه، "كان الأمر كأننا نسير أثناء النوم نحو التحول إلى دولة تابعة لروسيا... أعلنت الحكومة تعليق محادثات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي حتى عام 2028، في بلد أظهرت استطلاعات الرأي أن نحو 80 في المئة من سكانه يدعمون الانضمام".
تضيف جاباريدزه "تغير المزاج فجأة. لم يعد الناس يشعرون بالهزيمة، بل أصبحوا غاضبين". الرئيسة المنتهية ولايتها، سالومي زورابيشفيلي، ما زالت ترفض الاعتراف بالهزيمة وانضمت إلى الاحتجاجات التي شهدتها الشوارع مع بداية العام ضد الانتخابات المزورة. ومع ذلك استمرت ماكينة حزب "الحلم الجورجي" في العمل من دون توقف، إذ جرى تنصيب مرشحها، المهاجم السابق لفريق مانشستر سيتي ميخائيل كافيلشفيلي، رئيساً للبلاد، والنتيجة، دولة منقسمة بصورة عميقة، وهو ما يعده بوتين انتصاراً.
حسابات بوتين الاستراتيجية
يشعل التمرد على أطراف النفوذ الروسي الغضب، سواء من الكرملين الذي يشعر بالإحباط من حلفائه "غير المخلصين"، أو من الجيران المضطهدين الذين يخشون أن يفرض عليهم الانصياع بالقوة، ويضعف موقف بوتين يوماً بعد يوم، مما يترتب عليه عواقب استراتيجية حقيقية، فمنذ أن بدأت أوكرانيا باستخدام صواريخ كروز الغربية لإخراج أسطول البحر الأسود الروسي من شبه جزيرة القرم، بدأ قادة البحرية الروسية البحث عن توسيع ميناء أوتشامتشيري في منطقة أبخازيا الجورجية المحتلة من قبل روسيا. وتظهر صور الأقمار الاصطناعية أن هذا المشروع يتقدم بسرعة، لكن المخاطرة في هذه الخطة تكمن في احتمال امتداد الحرب الأوكرانية إلى جورجيا.
جزء من الحسابات الاستراتيجية لبوتين هو تعزيز الوجود البحري الروسي على الأراضي الجورجية، مما قد يدفع "الناتو" للتفكير مرتين قبل قبول عضوية جورجيا، كما أن النزاعات المجمدة في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، المستمرة منذ عام 2008 عندما استولت موسكو على هذه المناطق، قد تعود إلى الواجهة، مما يخلق ساحات معارك جديدة في حرب يائسة لا تنتهي ضد الغرب، فهل هذا سلوك عقلاني لزعيم يسعى إلى استقرار وجيران مطيعين على حدوده؟ ليس تماماً، ولهذا السبب تتآكل سلطته.
أظهر بوتين أنه لا يخشى إثارة الفوضى لزعزعة أوروبا أو السيطرة على الممرات البحرية التي تعد مهمة لأمن روسيا، لكن الحرب الطويلة والمرهقة ضد أوكرانيا باتت تحشد جيران بوتين الساخطين، وعلى رغم أن هؤلاء الجيران تجنبوا إلى حد كبير اتخاذ موقف حاسم بين بوتين وكييف، فإنهم الآن يستخدمون أساليب مختلفة للنأي بأنفسهم عنه، ففي قمة أستانا، التي حضرها بوتين، خاطب الرئيس الكازاخي قاسم جومارت توكاييف القادة باللغة الكازاخية بدلاً من الروسية، مؤكداً أن الاتحاد السوفياتي لم يعد موجوداً، ولا داعي لمجاملة رجل موسكو.
إخفاق موسكو مع دول ما بعد الاتحاد السوفياتي
في الوقت نفسه أظهرت أرمينيا، الحليف السابق المخلص (والمعتمد) على روسيا، عدم رغبتها في البقاء ضمن منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تهيمن عليها موسكو. جاء ذلك نتيجة خيبة أملها من عدم دعم بوتين لها خلال الحرب القصيرة وغير الناجحة مع أذربيجان حول منطقة ناغورنو قره.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية