«رجل أوروبا المريض».. ما الذي يحدث لاقتصاد ألمانيا؟

يمر أكبر اقتصاد أوروبي بأوقات عصيبة، وتلُفه توقعات متشائمة، بينما يتعرض نموذجه، الذي لطالما اعتبر فعالاً، للتهديد بسبب تباطؤ التجارة العالمية وحروبها، إلى جانب التغيرات في مشهد الطاقة وظهور منافسين جدد.

لسنوات عديدة، استطاع اقتصاد ألمانيا تحقيق أداء لافت بفضل صناعة قادرة على خلق سلع عالية الجودة مدعومة بإمدادات رخيصة للطاقة، واقتصاد موجه بشكل كبير نحو التصدير، حتى إنه أزاح اليابان من المرتبة الثالثة عالمياً، غير أن هذا النموذج أصبحت الآن دونه تحديات، ومع تأكيد الاقتصاد الأميركي لقوته وتوسع قدرات الصين، تبدو برلين متخلفة عن الركب.

مستنقع كورونا

بين عامي 2010 و 2019، كانت ألمانيا إحدى الاقتصادات الأكثر ديناميكية، إذ بلغ متوسط نموها 2%، لكنها ومنذ عام 2020، ظلت عملياً في حالة ركود تتخبط سعياً للخروج من مستنقع وباء كورونا. وإذا ما تم استثناء إستونيا وفنلندا، يبدو أداء الاقتصاد الألماني الأسوأ في منطقة اليورو.

كانت ألمانيا الاقتصاد الوحيد ضمن مجموعة «السبع» الذي دخل في حالة ركود خلال عام 2023، ونظراً للضعف الذي أظهره على مدى العام الماضي، لا يستبعد الخبراء أرقاماً جديدة مخيبة للآمال. ففي الربع الثالث من عام 2024، بالكاد تجاوز الاقتصاد الألماني مستواه قبل جائحة كورونا، بنمو طفيف نسبته 0.2%، في حين أن اقتصاد فرنسا سجل 4.1%، وإيطاليا 5.5%، وإسبانيا 6.6%.

بدأت ملامح الأزمة تتكشف عندما أعلنت شركة تصنيع السيارات الألمانية «فولكس فاغن» انخفاض صافي أرباحها بنسبة 64% في الربع الثالث من عام 2024 (على أساس سنوي). وللمرة الأولى في تاريخها أعلنت الشركة - التي تعتبر فخر الصناعة الألمانية - عزمها إغلاق عدة مصانع.

زاد سيناريو الأزمة تعقيداً، بعدما انهارت الحكومة الائتلافية نتيجة للخلافات القائمة حول القضايا الرئيسة المتعلقة بتحفيز الاقتصاد وميزانية 2025.

وانخفض مؤشر مناخ الأعمال في ألمانيا (Ifo) بشكل ملحوظ في ديسمبر المنصرم، إلى أدنى مستوى له منذ مايو 2020. وبات هذا التشاؤم يهدد بهشاشة تترك ألمانيا بلا قدرة على مواجهة أي صدمات عالمية محتملة، أو التأقلم مع الديناميكيات المتغيرة بسرعة فائقة.

هناك عدة عناصر تفسر ما يحدث في ألمانيا، وفقاً لتقرير حديث صادر عن وحدة الدراسات التابعة لبنك «كايشا» (Caixa) الإسباني:

نهاية عصر الغاز الرخيص

تعد ألمانيا إحدى الاقتصادات الأكثر تضرراً من حرب أوكرانيا، فقد حرمتها من إمدادات الغاز الروسي الرخيص الذي كان يشكل أكثر من نصف وارداتها من الغاز قبل الحرب.

الزيادة في تكاليف الطاقة (40 يورو للكيلوواط / ساعة مقابل أقل من 20 يورو سابقاً)، جعلت صناعتها في وضع غير مؤاتٍ مقارنة بالدول الأخرى ذات إمدادات طاقة أكثر تنوعاً.

وقد عمّق الإلغاء التدريجي للطاقة النووية من الأزمة ورفع تكاليف الشركات بشكل أكبر، ما قلص من نشاطها، ودفع بعضها إلى نقل جزء من الإنتاج خارج البلاد.

منافسة شرسة من الصين

على مدى العقد الماضي، طورت ألمانيا علاقات تجارية قوية مع الصين، فهي رابع أكبر سوق للصادرات الألمانية؛ غير أن هذه العلاقات تطورت بمرور الوقت، فالصين الآن ليست قادرة فقط على إنتاج جزء كبير من السلع التي كانت تحصل عليها سابقاً من ألمانيا، بل في مجالات مثل صناعة السيارات، تحوّلت بالفعل إلى منافس شرس.

في أقل من ستة أعوام، انتقلت الصين من الهامش في سوق السيارات العالمية، إلى تشكيل ما يقرب من 16% من إجمالي صادرات السيارات الكهربائية والهجينة، وما يقرب من 7% من صادرات المركبات التقليدية. وفي العام الماضي، زاد عدد المركبات التي صدرتها الصين ضعف تلك التي صدرتها ألمانيا.

نقص هيكلي في الاستثمارات

من ناحية أخرى، تبرز مشكلة انخفاض الاستثمار العام، فألمانيا تعاني نقصاً هيكلياً في الاستثمارات، إذ من المتوقع أن يكون ما سجلته في عام 2024 أقل من 3% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يضع ألمانيا ضمن المراتب الثلاث الدنيا على مستوى الاتحاد الأوروبي بأكمله.

ظلت الحكومات الألمانية المتعاقبة مترددة في زيادة الإنفاق العام، وسعت إلى انتهاج سياسات متوافقة مع تحقيق التوازن المالي لدرجة أنه في عام 2009 تم إدراج قاعدة مالية تعرف باسم «كابح الديون»، ما قلل بشكل كبير من مجال المناورة للاستثمار في تحول الطاقة والرقمنة والدفاع.

ومنح الالتزام بهذه «العقيدة المالية» ألمانيا حسابات عامة صحية، فالعجز المالي يلبي بشكل مريح الهدف، في حين يقترب دَينها عملياً من عتبة 60% نسبةً للناتج المحلي.

أيضاً، تواجه ألمانيا تحدياً ديموغرافياً على المدى القصير، فوفقاً لتقديرات المفوضية الأوروبية، سينخفض عدد سكان البلاد الذين هم في سن العمل (بين 20 و 64 عاماً) بأكثر من 6% حتى عام 2035، وسيشتد هذا الانحدار في العقود التالية.

حرب التجارة المنتظرة

يشكل تفشي السياسات الحمائية والتغيرات في سلاسل التوريد العالمية تحديات إضافية لاقتصاد موجه نحو التصدير مثل الاقتصاد الألماني.

وبالنظر إلى المستقبل، فإن السياسات الاقتصادية المحتملة التي قد تنتهجها إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب تمثل أحدث إضافة إلى القائمة الطويلة من المخاطر الاقتصادية التي تهدد ألمانيا. ومع ذهاب 10% من صادراتها إلى الولايات المتحدة - يشكل قطاع السيارات الجزء الأكبر منها - فإن أي تعريفات جمركية من شأنها أن تقصم ظهر قطاع يعاني بالفعل.

هذا، إلى جانب التأثير الذي قد تخلفه التخفيضات الضريبية وتخفيف القيود التنظيمية، فضلاً عن أسعار الطاقة المنخفضة في الولايات المتحدة، على القدرة التنافسية للصناعات الألمانية.

إصلاحات ملحة

بحسب توصيف وحدة التحليلات الاقتصادية والمالية لبنك «آي إن جي» (ING) الهولندي، فإن ألمانيا «عالقة بين الرياح المعاكسة الدورية والبنيوية، وتكافح للاتفاق على مخرج، كما أن انهيار الحكومة المقترن بسلسلة طويلة من الأخبار والإعلانات السلبية من الشركات الألمانية الشهيرة ليس سوى جزء من تداعيات هذا الركود والخلاف حول الوصفة السياسية الصحيحة».

السيناريو الأكثر تفاؤلاً، يتضمن حكومة جديدة تتفق على الإصلاحات البنيوية وتقليص البيروقراطية وزيادة الاستثمارات فضلاً عن خفض تكاليف الطاقة وسياسات مالية أكثر مرونة، بحسب ما أكدته وحدة التحليلات الاقتصادية والمالية لبنك «آي إن جي».

وأشارت في تقرير لها إلى أنه «لتعويض فجوة الاستثمار المتراكمة، ستحتاج ألمانيا إلى ضخ إضافي نسبة 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً على مدى السنوات العشر المقبلة».

أما وحدة الدراسات التابعة لبنك «كايشا» الإسباني، فترى أن ألمانيا تتمتع بنقاط قوة مهمة لتحقيق الإصلاحات الضرورية، إذ تتمتع بمؤسسات قوية وموثوقة، كما أنها مقر رئيس لتكتلات صناعية كبرى. علاوة على ذلك، فإن ديون قطاعها الخاص منخفضة للغاية ووضعها المالي قوي، ما يسمح لها بتصميم إستراتيجية مالية تضمن استدامة الحسابات العامة، مع إجراء تعديلات على بند كبح الديون، حتى تتمكن من زيادة الإنفاق العام.


هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من إرم بزنس

منذ 11 ساعة
منذ 10 ساعات
منذ 10 ساعات
منذ 10 ساعات
منذ 5 دقائق
منذ 10 ساعات
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 11 ساعة
قناة CNBC عربية منذ 23 ساعة
قناة CNBC عربية منذ 7 ساعات
قناة CNBC عربية منذ 19 ساعة
صحيفة الاقتصادية منذ 10 ساعات
قناة CNBC عربية منذ 5 ساعات
صحيفة الاقتصادية منذ 10 ساعات
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 9 ساعات