امتلكت ثومة المكانة فسيطرت على المكان.. "أم كلثوم" المعجزة مستمرة

قبل أن أكلف بالإعداد لهذا العدد التذكارى، وقعت فى يدى رسالة قديمة كتبتها سيدة لزوجها، تعود إلى يناير 1959، تحدثه فيها عن أغنية (جددت حبك ليه) لأم كلثوم، وما تركته فيها من أثر، فسألت نفسى: ما الذى جعل لمطربة مثل أم كلثوم، كل هذا الحضور فى الذاكرة اليومية؟ وكيف تركت فى حياتنا الأثر، الذى مد ظله فوق مائة عام بالتمام والكمال؟ تمثل رحلتنا مع الحداثة ومع الأمل فى آن واحد.

هل لأنها شكلت فى الوعى الجمعى صورة الحب، كما نعرفها الآن، أم لأنها جسدت فكرة الوطن، قبل أن تصبح الفكرة ذاتها مشروعا سياسيا يحتاج إلى أكثر من وسيلة لتعزيزه.

الشاهد أن مائة سنة حفلت بالعديد من التحولات، لكنها ويا للعجب لم تغير من مكانتها أبدا، ولم تحذف صوتها من جدول أعمالنا اليومى، فظل راسخا ومميزا وجميلا، له وحده حق السيادة على القلوب، وعلى الأصوات التى تتصارع حولنا وفى وجداننا باحثة عن مكان.

امتلكت ثومة المكانة، فسيطرت على المكان، إلى حد أنها أصبحت تماثل فى تجلياتها، ما ينسب إلى أولياء الله الصالحين من كرامات.

أستطيع القول، بإيمان تام إن لصوتها كراماته التى يدركها كل من استدل عليها فى روحه.

أتجول فى شوارع القاهرة كثيرا، فأجد صوتها يحرس ليلنا، يتحرك راسخا فى الزمن، عبر امتداد لا مرئى يصعب تجسيده، لكنه موجود وفاعل صانع لـ(ونس)، يعيد للمدينة حنانها القديم، يستدعى معه الأزمنة والوجوه.

يحدث أحيانا أن يأتى إلى من راديو الجيران، أو من سيارة عابرة، ويحدث أن ينقلنى معه فى سيارة تاكسى آخر الليل، فأسال السائق: هل تستطيع أن تتصور القاهرة بدون أم كلثوم؟ أتلقى فى كل مرة إجابات متقاربة وكلها تنتهى بالحديث عن (بركة) الست.

وإذا قال أحدنا «الله يرحمها «يرد الثانى «دى لسه عايشة»

هكذا لا يعتقد أحد فى موت صوت أم كلثوم.



ذات مساء صعدت إلى تاكسى، يقوده سائق عجوز، فجاءتنى مكالمة فطلبت منه أن يخفض صوت الكاسيت فرفض لأن من تغنى هى أم كلثوم ثم أعطانى درسا حول دورها فى حياته، وكيف أن زوجته المرحومة كانت تكلمه بأغنياتها، إذا رضيت عنه أدارت تسجيلا لأغنية ( أنت عمرى ) وإذا أهملها شغلت ( ودارت الأيام )، وإذا رضيت عنه اختارت (أقول لك إيه عن الشوق يا حبيبى).

أنهيت مكالمتى ثم شاركته الحديث عنها، فاطمأن لى ورفض أن يحصل على أجرته لأنه (اتونس معايا)، فدعوته إلى مقهى قريب، ومن يومها لا ينقطع التواصل بيننا.

شواهد كثيرة تقول إن ألفة كبيرة ظلت مقترنة بهذا الصوت، أدخلته إلى تاريخ الوجدان، وتحول معها إلى ما يشبه الغطاء الآمن، الذى يدثر جميع المؤمنين بالمعجزة المصرية الخالصة، إلى حد أن البعض لا يتحدث عنها كمطربة كلاسيكية لها طابع الأيقونة محل إجماع، وإنما هى سيرة صعود فى اتجاه الكمال، أقرب إلى سيرة شعبية متجددة، وقصة إلهام للملايين تستحق دائما أن تروى.

وربما تكون سيرة محمد صلاح مع النجاح، نسخاً وتكرار لهذا النموذج لكن فى إطار معاصر، يرتبط بقوانين المجال الذى يؤدى فيه، لكن على الرغم من الاختلاف بين النموذجين تظل المقارنة مغرية، ربما لأن فكرة الصعود تحتاج إلى عزيمة وإلى خطة عمل، لأنها فى الأصل رحلة إلى الأمل، ومن ثم تمثل حدا فاصلا بين لحظتين فى تاريخ الفرد، أو فى تاريخ أمته.

فى كتابها الخلاق حول أم كلثوم، اختارت الباحثة فرجينيا دانيلسون، عنوان (صوت مصر) وهو عنوان لا يرتبط بالمجاز، أو البلاغة المعتادة لكنه إشارة عميقة إلى مكانة كبيرة احتلتها (الست)، التى استحالت صوتا لوطن .



يواكب هذا العدد الخاص انطلاقة عام جديد، كما يتزامن مع حدثين مهمين فى ذاكرة الوجدان العام، فهو يأتى قبل شهر كامل من إحياء الذكرى الـ 50 لرحيل أم كلثوم، كما يختتم مائة عام بعد أول حفل أقامته فى القاهرة، بعد أن اتخذت قرارها بالبقاء، وخوض غمار تجربة إثبات الذات، وهذه التجربة ليست بعيدة عن تجربة خاضتها مصر، فى توقيت متزامن لإثبات ذاتها فى أعقاب ثورة 1919، أملا فى تأكيد استقلالها الوطنى وبلورة رحلتها مع الوطنية المصرية بمعناها الجديد، الذى خلقته تلك الثورة مواكبة لمعنى المواطنة الذى أوجدته الحداثة.

المؤكد أن أى جهد لتفكيك النص الكلثومى، يصعب معه تفادى ارتباط سيرة الصوت بسيرة الوطن الذى أنجبها، فعلى الصعيدالاجتماعى غيرت أم كلثوم من معيارية المجتمع وتقاليده، فى التعاطى مع عمل النساء فى الفن، فأصبح من الواجب النظر إلى دورها، كما ينظر إلى رائدات العمل النسائى.

ومن جهة الفن خلصت (ثومة)، الغناء العربى كاملا من حقبة كاملة غلب فيها الإسفاف الذى كان قد بلغها بعد الحرب العالمية الأولى، وارتقت به لمرحلة مختلفة تماما، حافظت فيها على ارتباطها بالتقاليد التى جاءت منها، لكنها تولت مسئولية تنظيم حفلاتها التجارية من غير الحاجة إلى «متعهد أو وسيط»، من الرجال، كما أنها استخدمت وسائل الاتصال الجماهيرى لترسيخ نجوميتها، بداية من عملها المبكر فى إعلانات لترويج منتجات تجارية، أو مع اختيارها بث حفلة الخميس فى الأول من كل شهر على الهواء مباشرة من الإذاعة الرسمية، فأصبحت داخل النسيج وجرى تعميمها كورشة للأمل.

أثبتت تلك الممارسات جدارتها عبر الزمن، وتحولت ليلة الخميس فى الوجدان العام إلى (ليلة أم كلثوم).



بدأت الظاهرة الكلثومية، وازدهرت فى مصر الملكية، فإنها لم تكتمل إلا بعد ثورة 1952، مثلها فى ذلك مثل جامعة الدول العربية، التى ولدت سياسيا أيضا فى مصر الملكية فى العام 1945، لكن أم كلثوم جعلت منها واقعا إنسانيا قبل ذلك بكثير، حين كان العرب يجتمعون على محبة صوتها، منذ أن بدأت جولاتها فى فلسطين، وبغداد وبلاد الشام، كوسيلة للحصول على اعتراف « قومى» بموهبتها.

أعطت مصر السياسية لفكرة العروبة، عنوانا أكبر فتحولت لبلد قائد أصبحت أم كلثوم بصورتها الرمزية هى (صوت العرب).

وكما يقول الراحل كمال النجمى، فقد أدرك جمال عبد الناصر بتكوينه السياسى الدلالة الرمزية للالتفاف العربى، حول صوت أم كلثوم وكيف أخذ شكلا قوميا، وبالتالى كان عليه الحفاظ على هذا الشكل الذى أخذ أبهى صورة، فى التفاف الجماهير حول الراديو ليلة الخميس الأول من كل شهر.

أجمع العرب على محبة صوتها، فردت التحية بأحسن منها، ولم تترك.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من بوابة الأهرام

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من بوابة الأهرام

منذ 11 ساعة
منذ 9 ساعات
منذ 8 ساعات
منذ 11 ساعة
منذ 11 ساعة
منذ 7 ساعات
موقع صدى البلد منذ 18 ساعة
موقع صدى البلد منذ 10 ساعات
صحيفة اليوم السابع منذ 8 ساعات
قناة العربية - مصر منذ 7 ساعات
صحيفة الوطن المصرية منذ 21 ساعة
صحيفة اليوم السابع منذ 14 ساعة
موقع صدى البلد منذ 10 ساعات
صحيفة اليوم السابع منذ 4 ساعات