تغفو على كتف جبل قاسيون، عروس محمولة على هالة من القداسة والجمال، تبدو في سفحه كقلادة لها بريق شمس الشتاء، هي دمشق، المدينة التي تنسج ألوان الحياة وأصواتها، ففي وقت تغني نوافيرها للحياة، تنادي مآذنها الأرواح، هي دمشق، الجوهرة الخالدة التي تختصر الزمن، حكاية الكون الأولى وقصته الأخيرة، قصيدة الغزل التي لا تنتهي، لؤلؤة الشرق وسيدة المدن وأميرة التاريخ التي جلست على عرش الحضارة، اللوحة التي أبدعها الخالق بفرشاة النور، ومدينة الحجارة التي تروي حكايات حب لا تنتهي وحكايات حروب لا تنتهي، مدينة الأحلام والذكريات والوعود والعشاق، المدينة التي لا تعاش مرتين، أم الحضارات، كل حجر فيها ينطق وكل زقاق منها يغني، هي دمشق، الآرامية العتيقة، الأغنية الأبدية التي عُزفت على أوتار الزمن، المدينة التي خجلت منها الكلمات، هنا دمشق، أو "مصر الشام" كما يحب أن يسميها المؤرخ العربي شمس الدين المقدسي.
13 ألف سنة
يعود تاريخ مدينة دمشق لنحو 11 ألف سنة قبل الميلاد، وأول اسم موثق لها عام 2000 قبل الميلاد إذ حملت اسم "داماسكي"، وورد ذكرها في أحد النصوص المصرية القديمة باسم "تيمساك"، ووردت أيضاً قبل الميلاد باسم "تيماشكي"، وعندما عاش فيها الآشوريون سموها "دمشقا"، أما الآراميون فأطلقوا عليها "دارميساك" أو "دارميسيق" التي تعني "المكان الوافر بالمياه"، أما الأوربيون فأطلقوا عليها اسم "داماسكُس"، وهو لفظها الحالي نفسه باللغة الإنجليزية.
الجامع الأموي في دمشق (أ ف ب/ غيتي)
أما اسمها الحالي "دمشق"، فاختلف أهل التاريخ حول أصله، من بينهم من يقول إن أصله سرياني، وآخرون يؤكدون أنه من جذور عربية، وبالنسبة إلى المؤرخين الذين يرون أنه اسم سرياني فيقولون إنه مشتق من كلمة "دومسكس" التي تعني المسك أو الرائحة الزكية، أما المؤرخون الذين يصرون على أنه عربي الأصل فيقولون إن الاسم مشتق من مصطلح "دَمْشَقَ" أي "أسرع"، وسموا المدينة بهذا الاسم حينما قيل إن "أبناءها دمشقوا" أي أسرعوا في بنائها، وبكل الأحوال تم إطلاق هذا الاسم عليها بعد القرن السابع للميلاد، أي بعد دخول المسلمين إليها، وبما أنها أيضاً تقع في قلب بلاد الشام يُطلق عليها "الشام"، على رغم أنه من المعروف أن الشام ليست دمشق وحدها بل تشمل سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، لذلك كان بعض المؤرخين يقول "دمشق الشام" لتمييز الخاص عن العام، وتسمى أيضاً "الفيحاء"، أما الأتراك فكانوا يسمونها رسمياً "شام شريف" أيام الدولة العثمانية، وحاليا تُلفظ دمشق بالتركية "شام".
ممالك وحضارات
وأقدم آثار تم العثور عليها للإنسان في دمشق تعود لنحو عام 10 آلاف قبل الميلاد، في منطقتي الغوطة ووادي نهر بردى، ويوجد أثر في منطقة تل الرماد يعود لعام 6300 قبل الميلاد حيث تم العثور على أقدم مكان لتخزين الحبوب في العالم، أما التطور العمراني القديم فيقول المؤرخون إنه بدأ في دمشق بعد الألف الثانية قبل الميلاد عندما كانت المدينة جزءاً من مقاطعة آمورو في عهد مملكة الهكسوس، وفي القرن الـ 12 قبل الميلاد أصبحت دمشق جزءاً من ممالك الآراميين، وفيها بنى الآراميون الترع وقنوات الري على أطراف نهر بردى، وازدهرت الزراعة في دمشق وما حولها في تلك الحقبة، وبحلول القرن الثامن قبل الميلاد استولى الآشوريون على دمشق وبقيت تحت سيطرتهم حتى القرن السابع قبل الميلاد، وأصبحت دمشق بعد ذلك تحت سلطة الفرعون نخاو الثاني قبل أن يستولي عليها البابليون، ثم الرومان.
دمشق تدخل العهد الإسلامي
وبعد الميلاد، بقيت دمشق تحت سيطرة البيزنطيين حتى عام 614 عندما غزاها الفرس بقيادة كسرى الثاني، واحتلوها لما يقارب 15 عاماً قبل أن يتمكن هرقل من طردهم منها، وفي سبتمبر (أيلول) 635 دخلها الجيش الإسلامي بقيادة خالد بن الوليد بعد ستة أشهر من الحصار، فعقد اتفاقاً مع سكانها على أن يدخلها جيشه سلماً ويمنح الأمان لأهلها، وبعد استقرار الأمور فيها تحت الحكم الإسلامي تم تعيين معاوية بن أبي سفيان والياً عليها، وبقي في منصبه ما يقارب 20 عاماً قبل أن يعلن الاستقلال، وبعد حروب داخلية بين المسلمين من أنصار معاوية وأنصار علي بن أبي طالب انتهت الأمور بتوقيع اتفاق صلح عام 661 سُمي "عام الجماعة"، وتم إعلان قيام الدولة الأموية وعاصمتها دمشق، بقيادة معاوية الذي بقي في منصبه كخليفة 20 عاماً أخرى، ليكون بذلك حاكم دمشق لأربعة عقود.
"المكتبة الظاهرية" هي أقدم المكتبات في مدينة دمشق (ويكيبيديا)
دمشق بين الأمويين والعباسيين
وبعد أن أصبحت دمشق عاصمة الدولة الأموية شهدت ازدهاراً لم يكُن مسبوقاً، فتم خلال عهدهم تشييد الجامع الأموي وبناء قنوات ري جديدة والإسراف في العمران، والاهتمام بالكتب والمدارس والمشافي وبناء القصور والحمامات والطرقات وغيرها من المعالم التي لا تزال موجودة حتى اليوم، وبنى الأمويون في دمشق أيضاً داراً للخيول وشقوا نهراً آخر من نهر بردى كان يسمى "نهر يزيد".
عام 749، فرض العباسيون حصاراً على دمشق استمر أكثر من 40 يوماً، ثم تمكنوا من الدخول إليها بالقوة، وحصلت فيها معركة كبيرة قُتل خلالها كثيرون من الأمويين، وتعرضت المدينة في البداية لعمليات النهب والتدمير وزال عصرها الذهبي، ثم أحكم العباسيون سيطرتهم عليها، إلا أنهم أبقوها مدينة تابعة لهم من دون أن تكون هي العاصمة، وبنوا مدينة بغداد لتكون عاصمة الدولة العباسية، أما دمشق فكان العصر العباسي عليها نذير سوء لأنها كانت عاصمة الأمويين، أعداء العباسيين، لذلك أهمل العباسيون المدينة مما أثار غضب سكانها، فقاموا بثورات عدة ضد الولاة العباسيين، أبرزها ثورة عثمان الأزدي عام 753، وثورة عيسى بن الشيخ عام 868 الذي استطاع أن ينتزعها من العباسيين ويعلنها دولة مستقلة لما يزيد على 20 عاماً قبل أن يتمكن العباسيون من استعادتها.
وبعد القرن الـ10، بدأت الدولة العباسية تعاني المشكلات الداخلية والضعف، مما تسبب بتعرضها لعمليات غزو وتمرد، فتناوب على حكم دمشق الطولونيون والإخشيديون والحمدانيون الذين ضموها إلى حلب، ثم الفاطميون الذين دمروها ودمروا المسجد الأموي، قبل أن يتمكن السلاجقة من طردهم عام 1075، وفي القرن الـ 12 أصبحت دمشق تحت سيطرة صلاح الدين الأيوبي، المدفون حتى اليوم قرب المسجد الأموي، ثم التحقت بحكم المماليك في مصر حيث أصبحت دمشق ثاني أهم مدينة بالنسبة إليهم بعد عاصمتهم القاهرة، وخلال عهد المماليك الذي استمر في الفترة ما بين 1250 وحتى 1516 تعرضت دمشق للغزو المغولي أكثر من 10 مرات، مما تسبب في مقتل الآلاف من أهلها وتعرضها للتدمير، وأيضاً حصلت مجاعة في القرن الـ 15 أسفرت عن وفاة الآلاف وانتشار السرقات والنهب، لكن ما لبثت دمشق أن تعافت وشهدت نهضة اقتصادية وثقافية كان من أبرز معالمها بناء "المكتبة الظاهرية" الموجودة إلى اليوم، وتوسعت أحياؤها ليتم بناء أحياء جديدة على أطرافها نظراً إلى ازدياد عدد السكان، ومع ذلك كان اهتمام المماليك الكبير بالعاصمة القاهرة سبباً في عدم تطوير دمشق بصورة أكبر.
العثمانيون في دمشق
في الـ26 من سبتمبر 1516، دخل السلطان العثماني سليم الأول مدينة دمشق للمرة الأولى بعد الانتصار على المماليك في معركة "مرج دابق" الشهيرة، وكان الاستيلاء على دمشق واحداً من أهم الأسباب التي وطّدت الحكم العثماني ووسعته، وأصبحت ولاية دمشق مركزاً لبلاد الشام، وعلى رغم ذلك شهدت المدينة ثورات عدة ضد العثمانيين أبرزها تمرد الوالي جان بردي الغزالي وإعلانه استقلال المدينة، قبل أن يرسل إليه السلطان جيشاً بقيادة والي حلب فرحات باشا قضى على جان بردي وثورته، فعادت.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية