ثلاث عصبيات شرق أوسطية مفترسة

في الشرق الأوسط المعاصر ثلاث عصبيات عنيدة وعتيدة ترفض مغادرة فضاءاتها المعرفية التاريخية الموروثة، وترفع رايات الممانعة عالياً في مواجهة أي تقدم نوعي في المنطقة، حيث تريد لها أن تبقى مجرد شعوب بالمعنى الروماني القديم للكلمة، أي مجرد تجمعات إثنية مقعرة، وهي العصبية الإسرائيلية والعصبية الفارسية والعصبية التركية، لكل منها راياتها المعرفية وتكتيكاتها الميدانية، بيد أنها تجمع كلها على استراتيجية واحدة هي الغالب والمغلوب. والمغلوب في هذه المعادلة راهناً هو العالم العربي.

نبدأ بالعصبية الإسرائيلية التي هي الأقدم، ذلك أن نشأتها تعود إلى زمن «مرسوم عزرا»، في زمن الاحتلال الفارسي لساحل البحر الأبيض المتوسط ونشأة مملكة القدس اليهودية في القرن الخامس قبل الميلاد. لهذه العصبية سرديتها التاريخية المتينة المبنية على تكامل في صيغة الانتماء بين الهوية الدينية والهوية القومية. لها أساطيرها التأسيسية الرمزية، في المخيال المجتمعي العام، كما لها كتبها الدينية والمذهبية المعززة لهذه الشخصية، الأمر الذي يمنحها متانة وصلابة وتماسكاً لافتاً ساعدها على اختراق العصور والاستدامة. فقد شكلت منظومة تفكير وسلوك لم يقو عليها الزمن، فتمكنت من بلوغ القرن الحادي والعشرين من دون أن تشيخ في وعي أهلها ووجدانهم.

أما تمظهراتها المتعصرنة وتلحفها بالطلاء الديمقراطي، وشرعة حقوق الإنسان، فلم يخترق جلدها، بدليل المبادئ التي تأسست عليها الدولة الإسرائيلية وسبكها لمفهوم المواطنة المحصورة بأبناء قومها حصراً. ولتبرير موقفها هذا، تلجأ العصبية الإسرائيلية إلى تذكير ما عانته من صدمات جرحية وحضارية في الأمس القريب والبعيد.

ومع أن الوقائع التاريخية شاهدة على هذا الأمر، إلا أنها تقوم منذ عام 1948 بالبناء عليها لتبرير استئثارها بالقوة بوطن عربي صغير اسمه فلسطين، وجعل شعبه يعيش منذ ذلك التاريخ صدمات جرحية لا تنقطع.

وهنا نتوقف عند إحدى خصائص العصبية كيفما جاءت، وهي طاقة النقمة والحقد الذي توليه للجهة التي تقوم بالتغلب عليها. فالغلب هو دستور العصبية، وهو، كما شرحه أستاذنا ابن خلدون، لا يعني الانتصار على المغلوب فحسب، بل أيضاً حرمانه من حقوقه واستتباعه؛ إذ يمنح بعدها بعض فتات حقوقه منحاً تحت سقف المغالبة والممانعة. فالمغالبة تأتي أولاً، وهي عسكرية الطابع ويمارسها صاحب الشوكة. أما الممانعة فتأتي ثانياً ولاحقاً وهي سياسية السبك، ويمارسها الحاجب.

بهذه اللعبة السياسية المزدوجة يتعامل الغالب مع المغلوب الذي يتحول إلى شبح سياسي لا شخصية متكاملة له، بل مجرد صورة متحركة ومستعبدة. في دولة العصبية، أي ما كان يعرف بدولة الملك قديماً، لا حقوق للمغلوب سوى البقاء على قيد الحياة تبعاً لمشيئة الغالب. أما هو فلا يتمتع إلا بواجب الطاعة المطلقة والتي لا رجعة عنها.

سجادة لا نهاية لحياكتها

العصبية الفارسية مثلها مثل العصبية الإسرائيلية، هي قديمة للغاية، ويعود تبلورها الأول إلى زمن الإمبراطورية الفارسية التي حكمت عسكرياً قسماً واسعاً من الشرق الأوسط وتخوم آسيا الشرقية.

وعليه فإن سرديتها التاريخية تقوم على أمجاد عسكرية وهيمنة مديدة على شعوب عدة، شرقاً وغرباً، بحيث إن أبخرة هذه الانتصارات تحولت مع الزمن إلى استعداد معرفي مقعر بالتفوق النوعي المستحق، وبوجود إنسان خارق في الشخصية العسكرية والسياسية على السواء.

فالجاه التاريخي والجيو- سياسي يكمن في صميم هذه العصبية، الأمر الذي يجعلها عصبية قومية في المقام الأول، على خلاف العصبية الإسرائيلية التي تقوم على مرتكز ديني تأسيسي تم ربطه بهوية قومية متخيلة. إلا أن هذه الصيغة الأولى، التي لطالما اصطبغت بها العصبية الفارسية، عادت فاستلحقت بهوية دينية مذهبية متينة منذ قرون قليلة إلى الوراء، فباتت اليوم تقوم على قاعدة صلبة من ركنين أحدهما قومي والآخر ديني.

وذلك إن دل على شيء، فعلى أن العصبية التي ما هي غير منظومة التفكير والسلوك السياسية الأقدم التي عرفها البشر في غابر الأزمان، ومن طبيعة دفاعية في الأصل، غدت مركبة مع مرور الزمن، إذ انطلقت من العشيرة إلى القبيلة فدولة الملك حيث تكرس، في التجارب كافة، ربط الشأن السياسي بالشأن الديني و/أو المذهبي. نتكلم هنا عن تجارب شرقية، لكن الأمر يصح أيضاً على مختلف التجارب الغربية التي قامت قبل الثورة الفرنسية في عام 1789. ولا بد من الإشارة إلى أن العصبية الفارسية قد عانت، مثلها مثل العصبية الإسرائيلية، من صدمات جرحية عبر التاريخ، مع فتوحات الإسكندر المقدوني كما مع الفتح الإسلامي، بمكونه العربي التأسيسي، بحيث إن الكراهية تجاه الغرب الإغريقي والغرب عموماً، تتجاور مع نقمة على العرب الذين ضربوا وزعزعوا أركان الإمبراطورية الفارسية القديمة ذات يوم. فالذاكرة الجمعية الفارسية، المعتدة بأمجادها السابقة وتفوقها الثقافي والعلمي المديد، لا تسامح حتى اليوم محطمي هذه الأحلام الماضية.

يدفعنا ذلك إلى الإشارة إلى مسألة نظرية مهمة هي أن العصبية لا تموت ولا تعترف بالزوال، بل تبقى حية كالجمر تحت الرماد طالما لم يحصل تخلي أهلها طوعاً عنها. وهذا أمر شبه مستحيل في ظل الأنظمة الاجتماعية التقليدية بسبب قيامها أصلاً على معادلات عصبية غالباً ما تكون مموهة.

كما تجدر الإشارة هنا أيضاً إلى أن مفهوم كراهية الآخر الذي يصاحب دوماً العصبيات، إنما يتخذ في الحالتين الإسرائيلية والفارسية طابعاً خاصاً، إذ إنه يجيء على نحو علني (داخلياً) أو مكتوم (خارجياً)، بمثابة انتقام حضاري عتيق.

ويوجه هذا الشعور الكاسر إلى الأغيار، أي إلى جميع الذين يقعون خارج دائرة الـ«نحن»، مع التركيز في كل مرحلة زمنية على عدو بعينه. علماً أن هذه النقمة المديدة تتحول إلى حقد حضاري عتيد يصاحب الشخصية العامة للجماعة.

وبما أن هذا الشعور يضحى موقفاً، نرى أن الحقد الحضاري المتأتي عنه يغدو حقداً مجتمعياً ونفس-اجتماعياً عارماً يدخل مبادئ التنشئة العصبية التي يصبها الأهل في البيوت على أطفالهم وأحفادهم من أهل الجماعة، الأمر الذي يزيد في الطين بلة ويجعل الحقد العصباني حقداً انتقامياً حضارياً تراكمياً أصيلاً.

آخر العنقود العصباني الشرق أوسطي

للعصبية التركية المستجدة زمنياً على اللتين سبقتاها في الإقليم، لونها الخاص وسرديتها الخاصة. فهي لا تستطيع أن تطالعنا بأساطير أو بارتباطات سماوية لكونها أفقية الطابع في بنيتها التأسيسية. فهي تقوم على التأصيل التاريخي العثماني من ضمن أطر العرق الطوراني الأصفر، واستيطان.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من صحيفة الوطن السعودية

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من صحيفة الوطن السعودية

منذ 11 ساعة
منذ 20 دقيقة
منذ 11 ساعة
منذ 3 ساعات
منذ 10 ساعات
منذ ساعة
صحيفة سبق منذ 8 ساعات
صحيفة الشرق الأوسط منذ 8 ساعات
صحيفة الشرق الأوسط منذ 6 ساعات
صحيفة عاجل منذ 6 ساعات
صحيفة عكاظ منذ ساعتين
صحيفة عكاظ منذ 11 ساعة
صحيفة المدينة منذ 3 ساعات
صحيفة عكاظ منذ 8 ساعات