تعرّف ضيفنا على القراءة في الرابعة عشرة من عمره، إذ جذبته الحكايات التي كانت تلقى شفهياً في مجالس كبار السن، سمع الكثير منها، لكنه كان عاجزاً عن إنشاء حكاية من عنده. كان اختراع تلك الحكايات صعباً عليه، لأنّه لم يعش أو يجرّب من الحياة ما يكفي ليروي حكايته!
في مكتبات صغيرة في أحياء مكة، قرأ كتب الشعر الشعبي ومروياته الكثيرة، والسير الشعبية، كالأمير حمزة البهلوان، وفيروز شاه، وسيف بن ذي يزن وغيرها.
كانت كتب الأدب الفصيح التي قرأها فيما بعد من روايات وقصص وبعض المسرحيات سبباً في كونه اليوم واحداً من أهمّ كتاب الرواية في السعودية، إذ صدرت له أعمال إبداعية في القصة والرواية؛ منها: أكثر من صورة وعود كبريت، قنص، المنهوبة، طيور الغسق، نار المرخ، المهرّب، على مرمى صحراء.. الروائي والكاتب عواض شاهر العصيمي في هذا الحوار:
دعنا نبدأ من علاقتك بالقراءة الأدبية والكتابة، كيف بدأت؟
بدأت أتعرف على القراءة وأنا في الرابعة عشرة، جذبتني أولاً الحكايات التي كانت تلقى شفهياً في مجالس كبار السن، وسمعت خلال هذه الفترة الكثير منها، لكني لم أستطع إنشاء حكاية من عندي، كان اختراعها صعباً. ثم علمت من أبي (رحمه الله) أن الحكايات التي سمعتها واقعية، حدثت في حياة البدو الرحل ثم راحوا يتوارثونها كما يتوارثون الإبل بالعدد والقيمة. لاحقاً، علمت أن جل ما سمعته كان عبارة عن سير حياتية مروا بها في أثناء الحل والترحال. وفي تلك اللحظة فهمت لماذا لم أستطع إنشاء حكايتي، ذلك أنني لم أعش ولم أجرب من الحياة ما يكفي لأروي حكايتي. أما التعرف على القراءة فقد بدأ مع قراءة كتب الشعر الشعبي ومروياته الكثيرة التي كانت تباع في مكتبات صغيرة أجدها في بعض أحياء مكة. ثم انتقلت، بسبب اهتمامي بالكتب الذي كان بسيطاً، إلى السير الشعبية، الأمير حمزة البهلوان، فيروز شاه، سيف بن ذي يزن وغيرها، وكانت تتوافر في تلك المكتبات أيضاً. تلك المرحلة المبكرة من حياتي كانت أهم فترة انتقلت فيها من السماع إلى القراءة. ذلك أنني في فترة لاحقة دخلت عالم كتب الأدب الفصيح، روايات وقصص وبعض المسرحيات، وكان من المبكر أن أقرأ في كتب النقد.
هل أُنصفت تجربة عواض شاهر الإبداعية نقدياً؟
في البداية، أي قبل سبع وعشرين سنة تقريباً، كنت أكتب وأنشر طمعاً في أن يتلقاني النقد بالاهتمام. كتبت العديد من القصص القصيرة، وكانت مجلة اليمامة تنشرها من باب التشجيع، وكان الشاعر محمد جبر الحربي -محرر القسم الأدبي في تلك الفترة- يبحث في الرسائل التي تصل إلى مكتبه عبر البريد الورقي عن مواهب يتوقع منها أن تتطور مع مرور الزمن، وكنت أحد المحظوظين بوجوده، والحقيقة أنه بنشره قصصي البسيطة، تشجيعاً منه لي ودعماً غير مباشر لأواصل الكتابة، وقد فعل هذا مع كثيرين غيري، هو بذلك الفعل الأدبي النبيل عزز عندي فكرة الاستمرار. لو أنه تعامل مع نصوصي باستعلاء أو بتجاهل، هل كنت سأستمر إلى اليوم؟ لا أدري، لكن احتمال التوقف عن الكتابة والقراءة نهائياً، كان سيكون قريباً من ذهني. اليوم، بعد كتابة روايات عديدة وقصص كثيرة، خلصت إلى أن الكتابة الإبداعية هي مهمة الكاتب الأساس، ولا شيء آخر. النقد سيأتي قطعاً، لكن على الكاتب أن يكتب بأفضل ما لديه من إمكانات. المبدع لا يغيب ولن يغيب عن النقد، هذا مؤكد. أكثر أعمالي الروائية تناولها النقد، وقدمت عنها دراسات ماجستير ودكتوراه، وتعرفت من خلالها على قراء ذوي وعي أدبي عالٍ، وكانت سبباً في المشاركة في ندوات وأمسيات أدبية في مدن عديدة محلياً ودوليا. أنا مدين لكتبي أكثر من أنني مدين لاهتمام الآخرين بها مع تقديري واعترافي بفضلهم. منتج الكاتب هو وسيلته الأهم في التعريف بنفسه وليس هناك وسيلة أخرى لها نفس التأثير والفاعلية والمصداقية. المبدع وغير المبدع، لن يقدما للقارئ والناقد والباحث صورة عنهما أصدق مما يمنحه نتاجهما الأدبي.
لماذا يعجز الكاتب عن نقل مشاعره وانفعالات شخصياته في كتابة أدبية صادقة ودقيقة؟
هل يعجز حقاً؟ هل العجز هنا هو بمعنى خيانة الحقيقة المكلفة (الحقيقة الفنية) بصنع الشخصيات وإثارتها على مستوى المشاعر والأحاسيس؟ لا أظن أن الكاتب الجيد، الحاذق في فنه، يعجز عن جعل شخصيات عمله تشعر بكينونتها التي من الضروري أن تكون حاضرة ليُكتب للعمل شيء من روح الأدب والمصداقية الفنية. صحيح، هناك فرق بين الواقع الذي نعيشه ونتلقى أحداثه ووقائعه المادية والمعنوية كل يوم، وبين الواقع المتخيل، الذي يلوذ به الكاتب ليعبر عن أفكاره. نحن لا نستطيع أن نتحدث عن كل شيء في الواقع المباشر، لأن الحديث عنه على هذه الصورة ليس مهمة القصة والرواية الأدبية. الكتابة الأدبية، سواء أكانت قصة قصيرة أم رواية، عمادها الخيال والمجاز، وعلى هذا هناك مسافة بين الحقيقة الموجودة في الواقع المباشر، والحقيقة المقروءة في القصة أو الرواية. الثانية حقيقة تستجيب للفن، حقيقة مدعاة في صورة شخصية من الشخصيات (المتخيلة) لكنها تحفل بالصدق الفني، أو يجب أن تحمل قدراً منه. هل يعجز الكاتب عن هذا الحِمْل؟ لا أعتقد، إلا إذا كانت قدراته التخييلية ضعيفة، أو تكبله مهارة هشة في الخبرة الروحية.
هل يمكن صناعة كاتب نجم؟ وما الأضرار المترتبة على ذلك؟
في رأيي، ليس هناك تنافر أبدي بين النجومية والكاتب، ما دامت القيمة الكلية تتجه لمصلحة النص. الكاتب الأمريكي كورماك مكارثي، وصفت رواياته من قبل بعض النقاد بالصعبة، لكنه يعد اليوم أحد أشهر وأهم الكتاب، فهو في عداد النجوم بالنسبة لقرائه. وفي المجمل هناك كتّاب حازوا جائزة نوبل أصبح أكثرهم من النجوم على مستوى العالم. فالنجومية من هذا الباب تقاس بجودة العمل الروائي أو الأعمال الروائية المطروحة، وتقاس أيضاً بعدد بيع النسخ التي ينبغي أن تكون بالملايين، وتترجم إلى لغات كثيرة، وتثار حوارات نقدية وأدبية حول الكاتب. ماركيز على سبيل المثال يعد نجماً في الرواية والقصة، وهو الذي ترجمت كتبه إلى لغات كثيرة وأصبح بالتالي شخصية أدبية معتبرة في عالم الأدب. هذه نجومية مستحقة. لكن سؤالك عن صناعة كاتب من الكتاب ليكون نجماً، وهذا يختلف عن الإعداد الذاتي ليكون الكاتب نفسه نجماً في الأدب، على أن يكون الأدب المقصود هو ما نعنيه حين نحدد أكثر فنقول إنه الإبداع والتميز في جنس من أجناس السرد. الكاتب المزود بمساعدة خارجية بقصد أن يكون نجماً في فترة من الفترات، ضمن مقاييس توجه معين من توجهات السوق الاستهلاكية، هذا الكاتب في نظري يدخل في حاجة السوق للسلع الأكثر مبيعاً، وحتماً سينتهي دوره عندما تفكر الجهة الصانعة في سلعة أخرى تحل محلها. وهو على هذه الصفة يضمر بسرعة مدركاً أن أكبر إنجازاته أنه كان في أحد الأيام لعبة في عقلية السوق. أما الكاتب المؤهل من داخله بمقومات أدبية قوية وصلبة فإن نجوميته مفهومة بل مستحقة.
كيف تنظر ككاتب لعلاقة المبدع بالقارئ؟
غالباً هي علاقة بالمكتوب وليس بالكاتب، فالقارئ لا يقرر فوراً أن يقرأ لهذا الكاتب أو ذاك الكاتب لمجرد أنه فلان الروائي. طبعاً هناك استثناءات، يكون الكاتب فيها هو الاسم الأعلى صوتاً من الرواية. لكن هناك عوامل تحدد العلاقة بين الكتاب والقراء. بعضها لا علاقة له بالعمل نفسه، مثل التوزيع الجيد، والإعلان المصاحب. أعتقد أن النقد في الوقت المناسب هو من أهم أسباب انجذاب القارئ لرواية ما. عندما كتب الناقد المصري رجاء النقاش عن رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» كانت كتابته تلك هي أهم أسباب انتشار الرواية على نطاق واسع. وفي المقابل، كان من سوء حظ رواية «أيام الإنسان السبعة» للروائي عبدالحكيم قاسم، أنها صدرت في نفس الفترة، وهي رواية متميزة لا تقل جودة عن رواية الطيب صالح ولكنها لم تشهد في تلك الفترة تحولاً في مسيرتها الهادئة إلى القارئ؛ لأن أحداً من النقاد المعروفين مثل رجاء النقاش لم يكتب عنها. هكذا قيل في إحدى الندوات النقدية، التي عقدت في الإسكندرية كما أظن، بعد طبع الروايتين بسنوات عديدة. فالقارئ في تصوري يتحرك أحياناً خلف النقد، ومن خلال النقد يزود فضوله برغبة الاكتشاف والبحث. في بعض الأحيان، تتشكل شهرة الكتاب بسبب موضوعه المثير للجدل، ولنتذكر على سبيل المثال، أن رواية رجاء الصانع «بنات الرياض» انتشرت انتشاراً واسعاً بسبب الجدل الذي أثارته بين بعض المنتمين للصحوة وفريق من الأدباء والحداثيين في بداية صدورها. الجوائز الأدبية أيضاً لها دور في تحريك فضول القراء. كل هذه الأسباب تصنع شكلاً من أشكال العلاقة بين الكاتب والقارئ. غير أن القارئ يمكن أن يكون صناعة أدبية من الكاتب نفسه، وذلك من خلال معاشرة طويلة الأمد بين منتج الكاتب والقارئ الذي تعرف عليه منذ الرواية الأولى واستمر يوالي قراءة إبداعه أولاً بأول حتى تشكلت لديه بصمة يعرفها عن كاتبه ويجادل حولها. هذا النوع من القراء ذوي الإخلاص المدهش هو الذي يمكن الحديث عنه على الصعيد الروحي والأدبي في علاقة المبدع بالكاتب.
الجوائز الأدبية، كيف تراها؟
تخيل أدباً دون جوائز؟ قطعاً، لن يخرج من دائرته الخاصة، ودائرة المتلقين القلة، وقد يضمر مع مرور الزمن وقلة الاهتمام. الجائزة ضرورية مثلما أن الأدب ضروري. لكن المهم في هذا الشأن هو المصداقية والوزن الأدبي للجائزة. في نظري البسيط، لا بد أن تمثل الجائزة (كفكرة وكمشروع أدبي) الطموحَ الحضاري الذي يعكس مفاهيم أوسع. أقصد في التعامل مع الأدب على أنه منتج يخلق معانيه المتشاركة بحيوية مع المنتج الكوني؛ أي أنه أدب غير منكمش على نفسه في قضاياه، ومن شأن هذا أن ينقل الكاتب المحلي إلى العالمية. وذلك لا يتحقق إلا بما لديه من رؤى إنسانية وأيضاً بما لديه من مؤهلات إبداعية في التعبير عن زمنه ومجتمعه بروح الإنسان ذاته الذي جعله يكتب. هل الجائزة الأدبية تشهد للفائز بالإبداع أو تدل على رهانها الرابح في اختيار فارسها؟ الأحكام النقدية التي تنتهي إليها أية لجنة تحكيمية عن أية جائزة، ليست سوى وجهات نظر الأعضاء، ليست ضمانة لا تقبل النقاش على جودة النص الفائز، ولكنها أقرب إلى أن تكون شهادة على تقارب وجهات النظر حول أفضل الموجود، وإن كان هذا الحكم النقدي لا يعني أن الأعضاء أنفسهم هم أفضل الموجودين. لذلك أعتقد أن العمل الجيد، بعيداً عن كرنفالات الجوائز، هو بمثابة جائزة لكاتبه، وهو أيضاً تكريم للقارئ، بغض النظر عما إن كان فاز أم لم يفز، شارك في المسابقة أم لم يشارك.
هل الكتابة لديك تعد الأكثر أهميّة، أم أنّ هناك أشياء أخرى تزاحمها؟
الكتابة هي الأكثر أهمية لدي في وقتها فقط، والوقت غالباً لا يتجاوز سويعات يومية إذا استصحبت الكثير من العزم والجد. خارج هذا الهم، أعيش حياتي بهدوء.
صراع المثقف بين المكان والمكانة.. عن أيهما يُبحث؟
هذا الصراع موجود عند البعض، هناك من يدخل إلى الثقافة من باب البحث عن مكانة إدارية أو اجتماعية يحلم بها، أي أن العمل الثقافي ليس هو المكانة التي أعد نفسه لها وإنما هو مجرد شغل للوصول. وحول هذا الموضوع كتبت في أحد المنشورات «هناك مثقف تهمه المكانة، وهناك مثقف يهمه المكان». هناك فرق. المكانة للمهتم بصعوده الشخصي هي مكان لإبراز الاسم وبناء السمعة والحصول على امتيازات تعنيه في شكل مباشر. أما المكان فهو مشروع من داخل الثقافة برؤية ثقافية مع استعدادات ملائمة لتحقيق الرؤية التي يسعى إليها كمثقف. هذه هي المكانة المضادة للنوع الأول، وهي المسار الطبيعي لإحداث فارق على مستوى الكيف والكم.
كيف يمكن للكاتب أن يرضى عن فكرته ويكتبها؟
«لترض عن الفكرة، أتقن.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من صحيفة عكاظ