تصريحات إيجابية ودعوات دافئة تتبادلها كل من "الإدارة الذاتية" والسلطات السورية الجديدة في دمشق للتوصّل إلى اتّفاق بشأن جملة من القضايا العالقة بين الجانبين وسط مسار صعب ومعقّد يهدد بإمكانية انهيار المفاوضات المستمرة في أي لحظة.
مفاوضات الشرع والأكراد "فريقان يحاولان الالتقاء في منتصف حقل من الألغام". هكذا يصف مصدر كردي مطّلع على المفاوضات المستمرة بين كل من "الإدارة الذاتية" ودمشق، والتي انطلقت حسب المصدر، بلقاء وفد من قوات سوريا الديمقراطية "قسد" بزعيم "هيئة تحرير الشام" أحمد الشرع في دمشق يوم 30 ديسمبر الماضي.
وفي حين لم ترد أية معلومات، مؤكدة تشير إلى تحقيق تقدّم ملموس أو جوهري نحو الاتفاق بين الطرفين، إلا أن المسؤولين الأكراد يصرّون على كون الاجتماع المذكور واللقاءات التي تلتها "إيجابية".
يشرح المصدر الكردي، مشترطاً عدم الكشف عن اسمه كونه غير مخول بالإدلاء تصريحات أو معلومات عسكرية، وجود "تيارات عدة" داخل بنية الإدارة السورية الجديدة ومحيطها، بمن فيهم الصقور الذين يرفضون الحلول التفاوضية وذلك "بتأثير من الخارج" حسب وصفه.
يقول المصدر لـ"المشهد" إن "أصحاب القرار في دمشق يدركون جيداً أهمية المسار التفاوضي لناحية التوصّل إلى حلول سريعة، والمضي قدماً في معركة كسب الشرعية الدولية".
وتُعد المفاوضات الجارية بين "قسد" والحكومة المؤقّتة في دمشق محورية لمستقبل استقرار سوريا، وقد دعا المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، غير بيدرسن، إلى "التحلي بالصبر في هذه المفاوضات لتجنب تحول التوترات إلى مواجهة عسكرية شاملة ستكون آثارها كارثية" على البلاد.
وفي حديثه إلى "المشهد"، كشف الرئيس المشترك لمجلس سوريا الديمقراطية "مسد"، الجناح السياسي للإدارة الذاتية، د. محمود المسلط، أن "المباحثات تسير بأجواء إيحابية" دون أن ينفي "وجود العديد من المسائل العالقة التي تحتاج إلى ترو ووقت للوصول إلى حلول تأتي بالخير على سوريا".
وقال المسلط إن "إرادة التوصل إلى حل موجودة لدى الطرفان، فنحن نملك هذه الإرادة ولمسنها بشكل جدي وفعلي لدى الطرف الآخر أيضاً، لذلك فإن المسار يسير بشكل صحيح".
ورقة سجون "داعش" تُعد "قسد" الجناح العسكري للإدارة الذاتية جهة فاعلة بارزة في الساحة السورية، وتحظى بشرعية ودعم دوليين نتيجة الحرب التي خاضتها ولا تزال ضد تنظيم "داعش" الإرهابي طوال العقد الماضي، بالإضافة إلى إدارتها للسجون والمعسكرات التي تحتوي على الدواعش وعائلاتهم في مناطق سيطرتها.
وفي سعي منها لانتزاع ورقة السجون ذات الأهمية السياسية من يد "الإدارة الذاتية"، طالبت دمشق "قسد" بتسليم إدارة هذه السجون إليها. لكن القوّات التي يقودها الأكراد ذات التوّجه اليساري والتي تضم عدداً كبيراً من المقاتلات النساء أيضاً، رفضت مقترح تسليم هذه المنشآت للإدارة الحالية في دمشق، مستندة في قرارها إلى مخاوف أمنية واحتمالية عودة تنظيم "داعش" للنشاط.
وقد حاول التنظيم بالفعل شن هجومين على السجون منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024، مما يعكس نيته استغلال حالة عدم الاستقرار الحالية في سوريا لمعاودة نشاطه، في تحدّ لسوريا ودول الجوار وحتى المجتمع الدولي.
تعتبر مسألة السيطرة على سجون تنظيم "داعش" محور خلاف بين الأطراف الفاعلة في الملف السوري. تركيا، التي تعتبر "قسد" إرهابية، تطالب بتسليم السجون للحكام السوريين الجدد. في المقابل، أعربت الإدارة الأميركية المنتهية ولايتها عن دعمها لاستمرار قسد في إدارة هذه المنشآت.
تتحمّل "قسد" مسؤولية نحو 10,000 من مقاتلي "داعش"، وتدير معسكرات احتجاز مثل مخيم الهول، الذي يضم عشرات الآلاف من الأشخاص، بمن فيهم عائلات المشتبه بانتمائهم لـ"داعش"، وقد دعت "قسد" منذ فترة طويلة الحكومات الأجنبية لإعادة مواطنيها المحتجزين، لكن العديد من الدول تتردد في القيام بذلك بسبب مخاوف أمنية.
وأصدرت "الإدارة الذاتية" بالأمس، وعبر هيئة الشؤون الاجتماعية والكادحين، بياناً بالسماح لحملة الجنسية السورية في مخيمات الهول - المحمودلي - أبو خشب - طويحينة بالعودة الى مناطقهم التي ينحدرون منها، قائلة إنّ "العوائل التي كانت تقيم في مخيم الهول كانت تخشى العودة بسبب وجود نظام الأسد، ومع سقوطه لم يعد هناك داعٍ للخوف وسنقوم بتقديم كافة التسهيلات وتأمين رحلات للعوائل الراغبة بالعودة".
تصريحات متعارضة تبادل كل من وزير خارجية الحكومة المؤقتة في دمشق أسعد الشيباني والرئيسة المشتركة لمكتب العلاقات الخارجية في "الإدارة الذاتية" إلهام أحمد منشورات باللغة الكردية على حسابهما الرسمي في "إكس"، حين أشار الشيباني إلى المظالم التي تعرّض لها الكرد في عهد الأسدين، مشدداً على "الجمال" الذي يضيفه الأكراد للتنوع المجتمعي السوري، لترد عليه أحمد مؤكدة على استعداد مساهمة الكرد "حين يتم ضمان حقوقهم الدستورية".
لكن اللغة الدبلوماسية ذاتها، لم تكن حاضرة لدى كل من الشرع ووزير دفاعه مؤخراً، حينما ركزا على كون "حزب العمال الكردستاني وقسد" الجهة الوحيدة التي لم تستجب لدعوات نزع السلاح، رغم عدم وجود بوادر أو مؤشرات على قيام ميليشات "الجيش الوطني" التابع لتركيا بحل أنفسهم، وهو ذات موقف الفصائل المسلّحة في الجنوب السوري بقيادة أحمد العودة والدروز في السويداء والجيش الحر في قاعدة التنف.
وفي 21 يناير 2025، شهد الملف السوري تطوّراً مهماً، حين رفض وزير الدفاع في الحكومة المؤقتة، مرهف أبو قسرة، مقترحاً من "قسد" بالسماح بها بالاحتفاظ ببنيتها العسكرية الخاصة خلا عملية دمجها ضمن مؤسسة وزارة الدفاع السورية.
ترفض "قسد" التي تمتلك قدرات عسكرية كبيرة لناحية عدد العناصر والعتاد الدعوات بحل نفسها والانضمام إلى الجيش السوري على شكل أفراد مقاتلين، في ظل حالة عدم الثقة بينها وبين الكثير من قيادات الجيش المذكور المنحدرة من صفوف تنظيمي القاعدة و"داعش".
في المقابل، فإن بقاء "قسد" بهيكليّتها العسكرية والمؤسساتية داخل صفوف الجيش، يشكّل تحدّياً للحكومة السورية المؤقة، لناحية إعاقة قدرتها على فرض سيطرتها مركزياً، وإضغاف سرديتها حول استعادة النظام والسيطرة على كامل الجغرافية السورية.
لكن، تفتقر الحكومة المؤقتة إلى القدرة العسكرية لمواجهة "قسد" مباشرة وفرض دمجها، كما أن الدعم العسكري والسياسي الذي تتلقاه "قسد" من الولايات المتحدة يضيف مستوى جديداً من التعقيد، حيث إن أي إجراء عدائي ضد "قسد" قد يؤدي إلى مواجهة مباشرة مع القوات الأميركية.
هذا الخلل في توازن القوى، يشرح تغاضي دمشق عن الهجمات التي تشنّها فصائل "الجيش الوطني" التابعة لتركيا على سد تشرين ومحيطها منذ 31 ديسمبر الماضي، بهدف توسيع سيطرتها وكسر صورة قّوة "قسد" وقدراتها العسكرية.
في الوقت ذاته، تتزايد مخاطر تصعيد تركيا لعملياتها العسكرية ضد "قسد"، وهي التي تعتبرها تهديداً أمنيّاً بسبب صلاتها بمسلّحي "حزب العمال الكردستاني"، وستزداد احتمالية هذه العمليات في حال خفّضت الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا في عهد ترامب.
في ظل كل ما سبق، يبقى البيت الأبيض بوصلة الأوضاع الهشة في سوريا، لناحية تحديد التفاعل بين الديناميكيات المحلية والمصالح الدولية، خاصة مصالح الولايات المتحدة وتركيا، في تشكيل مستقبل سوريا وحوكمتها.
(دمشق - المشهد)
هذا المحتوى مقدم من قناة المشهد