قبل أكثر من ألف عام، في بلاد كانت تسمى قديماً "إفريقيّة"، ولدت فاطمة الفهرية، سليلة إحدى العائلات القرشية العربية العريقة، وفي تلك البلاد بنى فيها جدها مدينة "القيروان" التي ظلت عاصمة المسلمين في بلدان المغرب لأكثر من أربعة قرون.
وتروي كتب التاريخ أن حفيدته نجحت في وضع اللبنة الأولى لإحدى أعرق جامعات العالم، التي بزغت شمسها من المشرق العربي، قبل أن يعرف الغرب مفهوم الجامعات بنحو قرنين، "فكأنما نبّهت بذلك عزائم الملوك من بعدها"، كما قال عنها المؤرخ العربي ابن خلدون.
إلى فاس جاء أول خبر عن فاطمة الفهرية في كتاب لابن أبي زرع الفاسي، المؤرخ في عهد الدولة المرينية، الذي توفي عام 1326م، وذلك في كتابه "الأنيس المطرب بروض القرطاس، في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس"، كما ذُكرت في تاريخ ابن خلدون.
وترجّح كتب التاريخ أن فاطمة الفهرية ولدت بين عامي 183-184هـ (أي في نحو عام 800م)، ولها شقيقة واحدة تدعى مريم، وأبوهما هو الفقيّه أبو عبد الله محمد بن عبد الله الفهري القيروانيّ، الذي يعود نسبه إلى عقبة بن نافع الفهري القرشي فاتح المغرب الأقَصى.
ويعتقد الدكتور لطفي عيسى، المؤرخ التونسي، أن الأدارسة قد رحبوا بمجيء محمد بن عبد الله الفهري لأسباب سياسية وجيهة "تتصل بتشكيل هوية مدينة فاس الإثنية".
وقد تأسس هذا الجامع في حي كان يُطلق عليه "عدوة القرويين"، والعدوة هي المكان المرتفع أو شاطئ الوادي، بحسب معاجم اللغة العربية.
ويقول المؤرخ التونسي إن عدوة القرويين كانت تسمى "العلية" أو "العالية" التي تعني المكان المرتفع ولكنها قد تشير أيضاً، بحسبه، إلى اسم الإمام "علي بن أبي طالب" ابن عم النبي محمد وزوج ابنته، الذي انحدرت منه سلالة "آل البيت" النبوي، والذي ينحدر من نسل ابنه الإمام الحسن ملوكُ الأدارسة الذين أسسوا مدينة فاس.
أما عن فاطمة الفهرية، فلم تكشف لنا المراجع التاريخية الكثير عن حياة هذه السيدة، التي ذُكرت سيرتها في سياق الحديث عن تأسيس جامع القرويين في مدينة فاس، بدولة المغرب حالياً.
ويقول عيسى لبي بي سي، إنه لا يعتقد أن هناك "معطيات دقيقة" تتعلق بالفترة التي قضتها فاطمة الفهرية في "إفريقيّة" التي يُطلق عليها اليوم "تونس"، مرجحاً أن يعود ذلك إلى "حرمة المرأة وتوخي عدم ذكر أي شيء يتعلق بها".
في حين يرى الدكتور مُنيف رافع الزعبي، المدير العام لأكاديمية العالم الإسلامي للعلوم، أن هذا "يبدو تقصيراً في توثيق سير النساء البارزات في الحضارة العربية الإسلامية أمثال الفهريّة، نساء ربّما لا تزال سِيَرهن وتراجمهنّ تقبع مخطوطة غير محققة في أقَبية المجامع والمكتبات".
أم البنين ذكر ابن أبي الزرع في كتابه أن وفداً من القيروان قدم إلى المغرب الأقصى في عهد الأدارسة، "وكانت فيهم امرأة مباركة صالحة اسمها فاطمة، وتُكنى أم البنين بنت محمد الفهري القيرواني، أتت من إفريقية مع أختها وزوجها".
وعلى الرغم من تلقيبها بـ"أم البنين"، إلا أن المصادر التاريخية لم تذكر شيئاً عن أبنائها أو سبب إطلاق هذا اللقب عليها، وهو لقب أطلق على بعض أبرز النساء عبر التاريخ الإسلامي.
وفسر البعض تلقيب فاطمة الفهرية بأم البنين، بأنه يرجع إلى أنها عُرفت بعطائها وإنفاقها على المساكين وطلبة العلم من مالها الذي ورثته.
ووردت في كتاب ابن أبي زرع روايتان؛ إحداهما تقول إن فاطمة ورثت "مالاً جسيماً" بعد وفاة أختها وزوجها، والأخرى تقول إنها هي وأختها مريم ورثتا المال عن أبيهما وأختيهما، فبنت فاطمة جامع القرويين، وبنت أختها جامع الأندلس، وهو ما يبدو الأرجح بحسب الشواهد التاريخية.
جدير بالذكر أن فاس انقسمت في عهد إدريس الثاني إلى مدينتين؛ حسبما أوضح السياسي والكاتب المغربي الراحل عبد الهادي التازي في دراسة له؛ فهناك مدينة الأندلس التي سكنها آلاف اللاجئين الذين وردوا إليها في عهد الحَكَم بن هشام، ثالث أمراء الدولة الأموية في الأندلس، وهناك "المدينة العُظمى التي يسكنها القيروانيون"، نسبة إلى القيروان في تونس، الذين أطلق عليهم "القرويين" تخفيفاً للنطق.
من تراب الأرض ذكر ابن أبي زرع أن فاطمة الفهرية حين انتوت بناء الجامع، اختارت أرضاً في المكان الذي يسكن فيه القرويون، "وكانت أرضاً بيضاء، يُعمل بها أصناف الجِص، وبها أيضاً أصناف من الشجر". والجِص هو الذي يُعرف اليوم بالجِبس المستخدم في مواد البناء.
وكان صاحب الأرض رجلاً من قبيلة هوارة، حازها والده حين بُنيت تلك المدينة، فاشترتها فاطمة منه بمالها الذي ورثته والذي "ليس فيه شبهة ولم يتغير ببيع أو شراء"، وشرعت في حفر بنائه وأساسه في الأول من شهر رمضان عام 245هـ/859م، أي أنها في ذلك الوقت كانت على مشارف الستينيات من عمرها.
وأوضح مؤرخ المرينيين أن فاطمة أمرت بحفر بئر وسط تلك الأرض التي كانت تعد منجماً، حيث صُنِعت فيها كهوف استُخرج منها التراب والحجر والرمل الأصفر الطيب، فبنت بها الجامع "ولم تُدخل فيه من تُراب غيره"، أي أنها اقتصرت في بنائه على مواد مستخرجة من الأرض التي اشترتها.
وقد أوعز بعض الباحثين والمؤرخين أن هذا الشرط الذي وضعته فاطمة الفهرية، هو ما جعل هذا الجامع يُبنى على مدار سنوات طوال، امتدت بحسب بعض المؤرخين إلى ثمانية عشر عاماً، ويقول ابن أبي زرع إن السيدة القيروانية ظلت صائمة خلالها "من يوم شُرع في بنائه إلى أن تم".
وفي كتابه عن جامع القرويين، وصف عضو أكاديمية المملكة المغربية عبد الهادي التازي، الجامع في تصميمه الأصلي على أنه كان شبه مربع على نحو ما عُرف في المساجد الإسلامية الأولى، وكان طوله يعادل تسعة وثلاثين متراً.
وبحسب التازي، فإن المساحة الكلية للجامع آنذاك تُقدر بـ 1248متراً مربعاً، تنقسم إلى أربعة "أساكيب" أو أروقة، قبل أن تتطور مساحة الجامع عبر الأزمنة المختلفة لتتجاوز النصف هيكتار، حيث تبلغ 5846 متراً مربعاً.
"حضور المرأة في الفضاء العام" أشار الدكتور عبد الصمد الديالمي، أستاذ علم الاجتماع في المغرب، إلى رواية تقول إن فاطمة ومريم الفهريتين نفذتا وعد أبيهما بتخصيص ميراثه بالكامل لبناء مسجد.
وفي حديثه لبي بي سي، يرى الديالمي أن هذا الوعد ربما يكون نتيجة عدم إنجابه ذَكَراً، وأن من الوارد أنه قصد منع ابنتيه من الاستفادة الكلية من الإرث، ومن خطر تقاسمه مع زوج ما.
وبالتالي، فالمبادرة "الخيرية" من وجهة نظر الأكاديمي المغربي، "ليست ذات أصل نِسْوي"، على الرغم من أنه كان بإمكان الوارثتين عدم تنفيذ وعد أبيهما والتصرف في إرثهما بشكل مغاير.
ومن هنا، يظل الفعل الخيري للفهريتين، إن صح، بحسب الديالمي، فعلًا لا ينتمي إلى النِسوية بمفهومها الحالي؛ فالنسوية الموجودة آنذاك كانت "نسوية إسلامية"، دون أن تحمل هذا الاسم؛ خاصة وأن المساجد وقتها كانت تدرس "اللامساوة بين الجنسين، الشيء الذي كان عادياً في بدايات تاريخ الإسلام"، بحسبه.
وعلى الرغم من أن مدينة فاس شهدت بناء حمامات خاصة بالنساء صيانة للعفة العمومية، وتخصيص ممرات خاصة بالنساء، بحسب أستاذ علم الاجتماع، لكن "لا يشير المخبرون والمؤرخون إلى وجود نساء عالمات أو شاعرات أو متصوفات بفاس إبان العهد الإدريسي".
في حين قال الدكتور لطفي عيسى، المؤرخ التونسي، لبي بي سي، إن ما قامت به فاطمة الفهرية، ما هو إلا امتداد لتقليد قديم منذ الفترة الرومانية، يُدعى نظام البلدية أو الـ"ايفغجيتزم".
والـ"ايفغجيتزم" كلمة يونانية تعني "أعمال الخير"، تطلق على.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من بي بي سي عربي