في عالم يمتلئ بضجيج سياسي وتقلبات عاصفة، ثمة لقاءات تترك أثرًا يتجاوز لحظتها، حوارات تظل متقدةً في الذاكرة، لا لأنها محض تبادل للكلمات، بل لأنها أشبه ببوح الكون لروحٍ تُصغي، ولحكمة نافذة إلى القلب والعقل. من هذه الحالة المفعمة بالصفاء ومن هذا الطراز النادر، كان لقائي بالشيخ همام باقر، حيث الشعور بالزمن يفسح لك متّسعًا لتمعن في رجل حمل على كاهله ثقل وطن، ولم ينحنِ إلا لصوت ضميره. بهيبته الهادئة، وبعمق نظرته التي تسبر أغوار المستقبل قبل أن يتشكل، وبكلماته التي تحمل بين حروفها مزيجًا مدهشًا من العلم والفكر والفقه والحكمة والسياسة، وجدتني أمام شخصية تشبه تلك الكتب التي تقرؤها مرة، فتعاود قراءتها ألف مرة، لأنك تدرك أن بين السطور سرًا لم تبلغه بعد، فتتشوق لبلوغه، فلم يكن مجرد حوار عابر، بل كان درسًا في الإصرار، وفي كيف يكون الفكر سلاحًا، والمبدأ حصنًا، وكيف يصنع الإنسان من معاركه جسرًا للعبور إلى ضفة أكثر موضوعية ونقاء. خرجت من ذلك اللقاء مثقلًا بأسئلة جديدة، كأنما أضاف الرجل إلى رحلتي الفكرية بعدًا لم أدركه من قبل.
فهناك شخصيات تعبر حياتنا مرورًا خفيفًا، وهناك شخصيات تترك في أرواحنا بصمة لا تزول، والشيخ همام حمودي كان من أولئك الذين يجعلونك تعيد ترتيب يقينك، أولئك الذين يمنحونك الإيمان بأن الكلمة قد تكون وطنًا، وأن الإخلاص لفكرة هو أول الطريق إلى خلودها.
حين يتحدث الشيخ همام حمودي، لا تشعر أنك أمام مجرد سياسي يجيد لعبة التوازنات، بل أمام رجل قرأ التاريخ بعين الفقيه، واستوعب الحاضر بعقل إستراتيجي ووعي منفتح، فصار صوته صدىً للواقع، وحديثه خارطة لفهمه. وجميعُها هالات نور ممتد دلت عليه تلك المسيرة المضيئة، التي أضاءت دروبًا ووديانًا وربوعًا ووطنًا سامقًا بتاريخه، فقد وُلد الشيخ في بغداد عام ألفٍ وتِسعمائة واثنين وخمسين، وتدرج في تحصيل العلم، بدأ بعلم وحرص. حصل على البكالوريوس في النفس عام ألفٍ وتسعمائة وخمسة وسبعين من جامعة بغداد كلية الآداب، والماجستير التخصص ذاته من كلية التربية، ليتوج هذا المسار الجامعي بالدكتوراه في الاقتصاد الإسلامي.
عاش همام حمودي في رحاب مدارس الفكر الإسلامي متنقلا بين دروب السياسة المعقدة، فكان واحدًا من الأسماء التي حفرت حضورها في مسيرة العراق الحديث، خصوصًا في محطات التحول الكبرى التي أعقبت سقوط النظام السابق عام ألفينِ وثلاثة.
في لحظة فارقة من تاريخ العراق، كان للشيخ همام حمودي دور محوري في صياغة الدستور العراقي في العام ألفين وخمسة، ترأس لجنة كتابة الدستور، واضعًا بصمته في نصوصٍ ستحكم ملامح الدولة لعقود.
كان يؤمن بأن الدستور ليس مجرد وثيقة قانونية، بل هو في الأساس عقد اجتماعي يحفظ التوازن بين مكونات العراق المتعددة.
دافع عن مبادئ تضمن حقوق الجميع، مؤكدًا أن "العراق لا يمكن أن يُبنى إلا على التوافق والشراكة الحقيقية" . لم يكن همام باقر حمودي مجرد مشرّع، بل كان أيضًا رجل سياسة قادرًا على إدارة المشهد تحت قبة البرلمان. حين تولّى منصب النائب الأول لرئيس مجلس النواب عام ألفين وأربعة عشر، كان صوته حاضرًا في القضايا المصيرية. لم يكن يخشى الاصطدام حين يتعلق الأمر بمصالح العراق، فحين تصاعد الجدل حول الوجود الأجنبي في البلاد، كان من أوائل الأصوات التي طالبت بخروج القوات الأجنبية، معتبرًا أن "سيادة العراق خط أحمر، لا يُمكن المساومة عليه". في سنوات المواجهة الكبرى ضد الإرهاب، حين كان العراق يخوض حربًا شرسة ضد تنظيم داعش، كان الشيخ همام حمودي من أبرز المدافعين عن الحشد الشعبي. لم يكن موقفه عابرًا أو مجرد تأييد سياسي، بل كان إيمانًا بأن العراق يحتاج إلى قوة تحميه من خطر التفكك.
في أكثر من مناسبة، أكد أن "الحشد الشعبي لم يكن خيارًا، بل كان ضرورة فرضتها معركة الوجود"، مشددًا على أن "من يريد حل الحشد، عليه أن يسأل العراقيين أولًا، فهم الذين قرروا وجوده". وحين تسلّم رئاسة المجلس الأعلى الإسلامي العراقي عام ألفين وسبعة عشر، كان يدرك أن هذه المؤسسة العريقة تمر بمرحلة حساسة، بعد انشقاق عمار الحكيم عنها وتأسيسه تيار الحكمة. لكن الرجل، الذي تعوّد على خوض المعارك الفكرية والسياسية، لم يتردد في إعادة بناء المجلس على أسس جديدة، مستندًا إلى تاريخه الطويل، ومشاركته في صنع عراقٍ جديد.
وفي لحظةٍ اتّسعت فيها الكلمات لتصبح.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من بوابة الأهرام