صادفتُ على الإنترنت أغنية بالفرنسية أثارت اهتمامي، فبدأت أبحث عن المغنّي. سرعان ما استنتجتُ أنه عربي أو من أصل عربي، بسبب عنوان أغنيته المكتوب بالعربية: "حكايات"، وانتقاده للشرطة قائلاً إنهم "بطيئون جداً" في ملاحقته، إضافة إلى حديثه عن سوء تصرّفه تجاه عائلته، حيث قال: "كنت صغيراً وفظّاً، وكنت أجلب مشاكلي معي إلى البيت".
يتميّز عدد من مغني الراب المنحدرين من أصول عربية في أوروبا بتضمين أغانيهم انتقادات موجّهة إلى الشرطة، إلى جانب إشارات شخصية لعائلاتهم، وجرعات من الرومانسية، وهي عناصر لا تظهر كثيراً في أعمال زملائهم الأوروبيين أو الأمريكيين. كما يحرص بعضهم على إدخال كلمات عربية إلى نصوص الأغاني.
وبعد بحث طويل، وجدت اسم المغني: "فون-ان". لكنه ظهر ملثماً، يضع نظارات شمسية ويغطي جسده بالكامل، حتى إنه كان يرتدي قفازات.
حينها، لم يكن في رصيده سوى أغنيتين، ولا تزال المعلومات المتوفرة عنه محدودة حتى اليوم، سوى أنه شاب من أصول عربية، وينحدر من مدينة نانتير، الواقعة في الضاحية الغربية للعاصمة الفرنسية باريس.
كتبت وسائل الإعلام الفرنسية المتخصصة بالموسيقى عن "الظاهرة" الجديدة بإعجاب، فيما كان كثيرون يتساءلون عن هوية المغني الغامض. في تلك الأثناء، انتشرت أغنيته "حكايات" على مقاطع الفيديو المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى أن دخلت الأغنية قائمة العشر الأوائل في فرنسا لأكثر من أسبوع، منتصف عام 2024.
قصص مقترحة نهاية
في وقت لاحق، أشارت تقارير إعلامية فرنسية إلى أن "فون-ان" من أصول جزائرية.
وقد رجّح البعض أن يكون الشاب، الذي لا يتجاوز بحسب التقديرات المتداولة أوائل العشرينيات من عمره، متأثراً بمغني الراب الفرنسي "كيكرا"، الذي يشتهر بدوره بارتداء القناع والنظارات الشمسية، وهو من أصول مغربية.
وكان "كيكرا" قد صرّح في مقابلة تلفزيونية عام 2017 أن اختياره إخفاء هويته يعود إلى رغبته في عدم معرفة والدته بأنه مغني راب، قائلاً: "لا أريد أن تعرف والدتي، لأنها ستصاب بخيبة أمل. أعتقد أنها ستشعر بالخجل، وأنا أشعر أيضاً بالخجل مما أفعل. فالراب ليس مهنة، الراب مجرد هراء".
لماذا يتماهى المهاجرون مع الراب؟ منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي، بدأت الأغاني من هذا النوع ترتكز على وجود كلمات عنيفة، فيها سرد عن استخدام الأسلحة والمخدرات، وفي بعض الأحيان، تتضمن تسليع شديد للنساء وعنف ضدهنّ.
إلا أنّ الجدير بالذكر، هو أنّ موسيقى الهيب هوب والراب، هي نتاج المجتمعات المهاجرة إلى الولايات المتحدة التي عانت من الفقر والتهميش وانتشار المخدرات والاتجار بها وعنف العصابات خلال ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي.
أي أنّ هذه الموسيقى مرتبطة تاريخياً بأمرين أساسيين: المهاجرين المهمشين، والجريمة، الذين يقولون إنهم يرتكبونها بسبب الفقر والتهميش وانعدام فرص العمل.
وتشير بعض المصادر المختصة بالموسيقى، إنّ مغنّين الهيب هوب والراب، وجدوا في الموسيقى مهنة يعتاشون منها بدلاً من مخالفة القانون، ممّا يمكن أن يفسر أيضاً الحياة الإشكالية السابقة للكثير من مغنين الراب عبر التاريخ.
نشأت موسيقى الراب بأشكالها الأولى في أواخر سبعينيات القرن الماضي في مدينة نيويورك، وتحديداً في حيّ البرونكس، الذي كان يضمّ آلاف السكان من أصول إفريقية وكاريبية وأمريكية لاتينية.
وانطلقت هذه الموسيقى ضمن ثقافة الهيب هوب الأشمل، التي شملت أيضاً أنماطاً معينة من الأزياء الفضفاضة، ورقص "البريك دانس"، ورسم الغرافيتي على الجدران.
ومنذ أواخر ثمانينيات القرن العشرين، بدأت بعض الأغاني في هذا النوع تتجه نحو مضامين أكثر عنفاً، تتناول استخدام الأسلحة والمخدرات، كما حملت في بعض الأحيان تسليعاً للنساء وعنفاً ضدهن.
لكن من المهم الإشارة إلى أن هذا التحوّل لم يكن سمة شاملة لكل موسيقى الراب، بل ارتبط بشكل أساسي بما يعرف بـ"راب العصابات". في المقابل، بقيت تيارات أخرى من الراب تركّز على قضايا اجتماعية، أو تعبيرات فنية شخصية.
ومع ذلك، تعتبر موسيقى الراب والهيب هوب، في جوهرها، نتاجاً لبيئات مهمّشة ومجتمعات مهاجرة عانت من التهميش والفقر والعنصرية، لا سيّما في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
وبالتالي، ارتبط هذا النوع من الموسيقى تاريخياً بعنصرين رئيسيين: المجتمعات المهاجرة والمحرومة، وواقع الجريمة الذي غالبًا ما اعتُبر نتيجة مباشرة لغياب الفرص وارتفاع نسب البطالة.
وتشير مصادر متخصصة إلى أن الكثير من مغني الراب وجدوا في هذه الموسيقى مهنة بديلة عن الانخراط في الجريمة، وهو ما يفسّر الخلفيات الإشكالية التي حملها عدد كبير من مغني الراب المعروفين.
"الراب من أصل عربي" في أوروبا رغم هيمنة المضامين العنيفة على كلمات العديد من أغاني الراب، والأنواع الموسيقية المتفرعة عنه مثل "التراب" و"الدريل"، لا تزال هناك مفارقات موسيقية لافتة يقدّمها بعض المغنين وصنّاع الموسيقى، خصوصًا من ذوي الأصول العربية في أوروبا.
ففي عدد من الدول الأوروبية، مثل فرنسا، إسبانيا، وإيطاليا، يبرز مغنو راب من أصول عربية في مقدمة مشهد موسيقى الراب، والتراب، والدريل، والهيب هوب، وهي أنماط موسيقية متداخلة ومتقاربة في بنيتها الإيقاعية ومواضيعها.
وقد اختيرت هنا كلمة "يحتل" للدلالة على التقدّم الكبير الذي أحرزه هؤلاء الفنانون على الساحة الموسيقية، إلا أن للكلمة في السياق الأوروبي معنىً آخر، يستخدمه بعض السياسيين اليمينيين وجمهورهم للإشارة إلى المهاجرين، ومن بينهم فنانو الراب، بوصفهم "غزاة ثقافيين" أو تهديداً للهوية القومية لعدد من البلدان.
ومن بين أبرز الأسماء في هذا المشهد، يبرز "موراد"، واسمه الكامل مراد الخطوطي الحورامي، وهو مغنٍ من أصل مغربي، وُلد ونشأ في حي لوسبيتاليت دي يوبريغات، أحد ضواحي مدينة برشلونة الإسبانية، المعروفة بكثافتها السكانية العالية من المهاجرين من دول المغرب العربي.
ويُعد موراد اليوم من أشهر مغني الراب من أصل عربي في أوروبا والعالم العربي، إذ يسجّل أكثر من 14 مليون و400 ألف مستمع شهري على منصة "سبوتيفاي"، التي تتيح للجمهور الوصول إلى بيانات دقيقة حول نسب الاستماع للفنانين.
وكان من أبرز إنجازاته الموسيقية الأخيرة، احتلاله المرتبة الثالثة على لائحة "سبوتيفاي" للفنانين الأكثر استماعاً في أوروبا بجميع اللغات لعام 2024.
وينسب إلى موراد الفضل في إحداث "ثورة في المشهد الموسيقي الحضري في إسبانيا" منذ عام 2019، وهو العام الذي بدأ فيه اسمه يلمع في كل من إسبانيا وفرنسا.
وتقول فيكتوريا سيلفا سانشيز، وهي باحثة إسبانية متخصصة في شؤون الهجرة والعنصرية والسرديات الإعلامية، في مقابلة مع بي بي سي عربي: "يمكن القول إن موراد كان أول مغني راب عربي يصل إلى هذا القدر من الشهرة في إسبانيا، وقد فتح الباب أمام آخرين من ذوي الأصول العربية لتحقيق شهرة مماثلة في البلاد".
ساهم نجاح "موراد" وشهرته الواسعة، في تشجيع عدد من الشباب الإسبان من أصول عربية على إنتاج موسيقى من النوع نفسه، ثم تعاونوا معه في أغانٍ مشتركة أشعلت مسيرتهم، ووسعت من شهرتهم خارج إسبانيا.
من أبرز هؤلاء "بيني يونيور" (محمد الريفي) المولود في مدينة شفشاون المغربية و"ديلارو" وهو من والد من غينيا بيساو وأم مغربية.
ويبدو أن هذا التضامن العربي في إسبانيا لا يقتصر على الموسيقى، إذ يعرف عن نجم نادي برشلونة الشاب لامين يامال (واسمه الكامل بالعربية الأمين جمال) أنه من المتابعين الدائمين لأعمال "موراد" و"بيني يونيور"، وغالباً ما يروّج لهما عبر حساباته على مواقع التواصل.
وفي المقابل، ردّ "موراد" الجميل في أغنيته "هويو" الصادرة عام 2024، حيث قال: "لامين يامال، من الشارع (الفقر) إلى المجد".
وتُظهر قائمة الاستماع الخاصة بيامال على "سبوتيفاي"، أنه يستمع أثناء التحضير لمبارياته مع الفريق الكاتالوني، إلى أعمال مغنّي الراب.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من بي بي سي عربي