قليلون هم المثقفون العرب الأحياء القادرون على إثارة الجدل الحادّ في كل مرّة يُذكر فيها اسمهم. أدونيس هو قطعاً من هذه القلّة، إن لم يكن أكثرهم إثارةً للجدل على الإطلاق.
إلى جانب اعتباره من قبل كثيرين أحد أهمّ الشعراء العرب الحاليين، فقد ظلّ منذ ستينيات القرن الماضي شخصية محورية في الفكر العربي المعاصر، قادرة دوماً على إثارة الإعجاب الشديد والنقد القاسي، في آنٍ واحد.
وقد ارتبط اسم أدونيس على المستوى الشعبي خلال العقد الماضي بجائزة نوبل التي يتم ترشيحه إليها بانتظام منذ عام 1988، من دون أن يفوز بها. وبعد فوزه بجائزة "غوته" الألمانية عام 2011 كأول أديب عربي، بات اسمه مطروحاً بشكل أكبر للحصول على نوبل، حتى أصبح الأمر أشبه بـ"ميم" يتناقلها الأشخاص على وسائل التواصل الاجتماعي كل عام في موعد إعلان الفائزين بالجائزة العالمية.
وفي السنوات الأربع عشرة الماضية، ازدادت حدّة الاستقطاب حول الموقف من أدونيس على خلفية تعليقاته على الثورة السورية منذ بداياتها، لا سيما بعد مخاطبته بشار الأسد في يونيو/ حزيران 2011 في رسالةٍ مفتوحة نشرها في جريدة السفير اللبنانية، اعتبره فيها رئيسا منتخبا ذا شرعيّة.
قبل أن يتبع ذلك تصريحاته الشهيرة حول أن الثورة "لا يمكنها أن تخرج من المسجد".
قصص مقترحة نهاية
وفي الآونة الأخيرة، عاد أدونيس إلى واجهة السجال مجدداً، بعد مشاركته في تظاهرة في باريس تندد بمجازر الساحل السوري - علما أن أدونيس هو ابن الساحل وينتمي إلى الطائفة العلويّة.
كذلك، كان قد صرّح، في أعقاب سقوط النظام السوري في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، بـ"ضرورة تغيير المجتمع وليس النظام فقط".
هذه المواقف وغيرها مثّلت استفزازاً لكثيرين من الذين لم يتمكنوا من التصالح مع الشاعر، متهمين إياه تارةً بالإسلاموفوبيا وتارةً بالطائفية.
إلا أنّ موقع أدونيس في قلب السجالات في العالم العربي ليس جديداً، بل عمره من عمر مسيرته الفكرية المُطارَدة منذ البداية بفكرة الحداثة وبتحدّي الموروثات، حتى أصبح بالنسبة للبعض "هادماً للمقدسات" يستحق التحيّة على شجاعته في نقد الثقافة الإسلامية خصوصاً، وفي نظر البعض الآخر متبنياً لنظرة اختزالية إلى الشرق والإسلام.
هاجس "الحداثة" وُلد علي أحمد سعيد إسبر في قرية قصابين في ريف اللاذقية عام 1930، وأعاد اختراع نفسه مبكراً (عام 1947) باعتماد اسم أدونيس الذي يرمز إلى التجديد والبعث الأسطوري. وسيظلّ وفياً لمعنى الاسم الذي استعاره من إله الخصب والموت والبعث في الميثولوجيا المشرقية ما قبل الإسلام.
بعد تجربة قصيرة له في السجن في سوريا، بسبب عضويته في الحزب السوري القومي الاجتماعي، غادر أدونيس عام 1956 إلى العاصمة اللبنانية بيروت حيث شهد "ولادته الثقافية" كما يقول.
أما "الولادة الكونية"، فكانت في باريس التي وصل إليها عام 1960، قبل أن ينشر بعدها بعامٍ واحد كتاب "أغاني مهيار الدمشقي" الذي مثّل محطة مفصلية في تطوّر القصيدة العربية الحديثة. كما يُعدّ عملاً تأسيسياً لما يُعرف اليوم بـ"القصيدة الحديثة" في الشعر العربي.
تزوج أدونيس من خالدة سعيد، وهي ناقدة أدبية سوريّة مشهورة.
كما أن أشهر أعماله الأدبية التي تلت كانت "الكتاب" الذي صدر في ثلاث أجزاء بين عامي 1995 و2002، و"هذا هو اسمي" (1971).
جاءت مسيرة أدونيس الفكرية مدفوعةً بمهمة واضحة: تشكيل حداثة عربية تتحرر من قيود التقليد الثابت. ومن خلال شعره الرائد ومؤلفاته، كان أدونيس دائماً يؤكد أن ركود العالم العربي يعود إلى تراثه الفكري والديني الذي يراه "مقاوماً بطبيعته للتغيير".
وفي أعماله المهمة مثل "مقدمة للشعر العربي" و"الثابت والمتحول" (1974)، قدم أدونيس أطروحته التي تمحورت حول "ضرورة القطيعة المعرفية مع الماضي من أجل تحديثٍ حقيقي".
وعلى العكس من مفكرين آخرين سعوا إلى الإصلاح من داخل الإسلام، جادل أدونيس بأن بنية الحضارة الإسلامية إبستمولوجيتها (نظامها المعرفي) ولاهوتها السياسي كانت "غير متوافقة مع الحداثة".
وظلّ أدونيس منذ ستينيات القرن الماضي، على الرغم من بعض التغيرات في آرائه تبعاً للأحداث السياسية المحيطة به، ملتزماً بنقد المؤسسة الدينية في العالم العربي.
"تسييس الدين هو نوع من تحويل الشمس إلى فرن" والجدير بالذكر أن أدونيس يحرص دائماً على التفريق بين أمرين: الإسلام كعقيدة (أي الإسلام كدين في جوهره الروحي والنصّي)، وبين اللاهوت البشري الإسلامي (أي كل ما أُنتِج لاحقاً من تفسيرات وتأويلات وفِقه وكلام وفلسفة من قِبل البشر، أي العلماء والفقهاء والمفسرين على مرّ التاريخ).
ويركّز نقده على الثاني.
في مقابلة حديثة معه نُشرت في فبراير/ شباط 2025، يقول أدونيس: "ليس للإسلام العربي على الأقل، مستقبل، على مستوى الحضارة والإبداع الحضاري، لكنه سيظل قائماً في أنظمة متعفنة وفي مؤسسات أكثر تعفناً وفي ممارسات مهينة للإنسان عقلاً وفكراً وحياة. هكذا سيظل قائماً أمثولة وأضحوكة في الآن ذاته للعالم كله. وهو ما يريده الحلف الأمريكي الأوروبي. أن يظل المسلمون العرب غارقين في همومهم المنعزلة كلياً عن الإنسان وعن الحاضر البشري الخلاق. أن يظلوا غارقين في وقاحة الاستهلاك وفي نزاعاتهم المذهبية القبلية".
قبل هذه التصريحات بحوالي 50 عاماً، تحديداً عام 1973 تاريخ صدور كتابه الأشهر "الثابت والمتحوّل"، عمل أدونيس على تطوير رؤية نقدية للثقافة العربية، مستنداً إلى مفهوم الصراع بين قوتين رئيسيتين:
"الثابت" ويمثل كل ما هو جامد وتقليدي ومرتبط برؤية مغلقة للعالم، بما في ذلك التفسيرات الدينية المتشددة والأطر الفكرية الراسخة التي تعيق أي تحوّل. و"المتحوّل" وهو ما يجسّد الديناميكية والإبداع والانفتاح على الحداثة، بخاصة في مجالات الفكر والأدب والفن.
يرى أدونيس أن سيطرة "الثابت" على حساب "المتحوّل" شكلت عائقاً أمام التطور الفكري والإبداعي في الثقافة العربية، مما أدى إلى انغلاقها أمام الحداثة.
قوبل هذا الكتاب الذي صدر في أربعة أجزاء، بإشادة من جهة بسبب جرأته، لكنه واجه أيضاً انتقادات متعددة، بخاصة من قبل المفكرين المحافظين.
في المقابلة الحديثة مع مجلة "البعد الخامس" اللبنانية الثقافية، يكرر أدونيس نقده للإسلام السياسي قائلاً: إن "تسييس الدين هو نوع من تحويل الشمس إلى فرن، هو تشويه لا للدين وحده، وإنما للإنسان ذاته، وللألوهة ذاتها".
ويرى أن "الثورة الإسلامية حتى اليوم تتمثل في الخروج كلياً من عالم الفقه. الفقه حوّل الدين إلى أمر ونهي، ومحا فضاءاته الروحية الخلّاقة العالية التي حاول المتصوفون أن يؤسسوا لها".
وكرر المطالبة بـ"سلطة إسلامية حرة لا تستمد حريتها من الفقه وإنما تستمدها من الوحي ذاته: من الكتاب الإلهي".
"بيان 5 حزيران" لطالما رأى نقاد أن نقد أدونيس للواقع العربي والإسلامي يتسم بـ"الثقافوية" لأنه يركز بشكل أساسي على العوامل الثقافية والتراثية كأسباب رئيسية للتخلف والانحطاط، متجاهلاً إلى حد كبير العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تلعب دوراً محورياً في تشكيل هذا الواقع.
فهو مثلا يقول: "يعيش الإسلام، بوصفه ديناً وثقافة معاً، مأزقاً تاريخياً لم يعرف حتى في ظلمات الخلافة العثمانية. لا خروج من هذا المأزق الذي يفرغ من كل بعد روحي أو.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من بي بي سي عربي