من المؤكد أنه كان في مقدور قراء العصور التالية للزمن الذي عاش فيه الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبس (1588 1679) أن يكرهوه بقدر ما يشاؤون، بسبب مؤلفاته وأفكاره ولكن أيضاً بسبب ملامحه الكريهة المليئة بالحقد، التي تلوح من شتى البورتريهات التي رسمت له، غير أن ثمة أمراً ربما يمكننا اعتباره "إيجاباً" يتعلق بهذا المفكر الذي لا يخلو من الحديث عنه أي كتاب في تاريخ الفلسفة أو تاريخ الفكر السياسي، من ناحية بوصفه فيلسوفاً، ومن ناحية ثانية بوصفه المؤسس الحقيقي في تاريخ هذا الفكر لمبادئ قيام الدولة الحديثة.
وثمة أيضاً إلى جانب ذلك، مكانته في تاريخ الفكر الأخلاقي التي كان ثمة خلاف عميق حولها منذ الزمن الذي عاش فيه، وحتى مشارف الألفية الثالثة. ولماذا حتى هذه المشارف؟ بكل بساطة لأن بدايات القرن الـ21 أعطته الحق في الأقل بالنسبة إلى المنطلق، البسيط، الذي انطلق منه ومن عبارات قليلة قالها، ليبني صرحاً فكرياً يمكننا اليوم أن نستعيده ولو آسفين ونحن نتحدث عن الدولة وبنائها وضرورتها. وهذا المنطلق يقوم أساساً على ما حاول هوبس أن يقوله دائماً من أن "الإنسان إنما هو ذئب بالنسبة إلى أخيه الإنسان"، مركزاً على أن هذا المبدأ السلبي هو ما أسس للدولة في تاريخ البشرية ويبرر ضرورتها وحتمية الرجوع إليها لتسوية أمور الحكم والرعية والتناحرات بين الأمم في التاريخ الإنساني، في اختصار لولا أن الإنسان يعامل أخاه في البشرية تعامل الذئب في البرية مع بقية الحيوانات لما كان ثمة حاجة إلى الدولة.
كائن شرير بطبعه
بالنسبة إلى هوبس، وعلى النقيض من كثرة من الفلاسفة والمؤلفين في مجالات العلوم والأفكار الإنسانية من الذين يصرون عادة أن الإنسان طيّب في ذاته، لكن الظروف التاريخية تضطره إلى استئصال تلك الطيبة من حياته، هوبس يفتي بأن الإنسان كائن شرير بطبعه، وهو لكي يتصدى لذلك الشر فيبارح الأدغال التي يحيط نفسه بها، يجد نفسه مضطراً، حين تتحول حياته من فردية إلى جماعية ما يضطره إلى التعامل مع الآخرين تعاملاً هو فعل التأسيس لوجود السياسة والحكم والتسويات بين الأفراد والجماعات - تلك البنى التي ستختصر دائماً تحت مسمى الدولة، بصرف النظر عن الأشكال التي تتخذها تلك الدولة بالطبع - يجد الوسيلة التي تلجم توحشه ووقوفه، مدافعاً أو مهاجماً، في وجه الذئاب الأخرى التي تتكون منها البشرية منقسمة إلى جماعات، ومن هنا فإن الدولة ليست بالنسبة إلى هوبس سوى الوسيلة الأكثر منطقية لانتزاع توحش الإنسان وتمكنه من التعايش مع الآخرين. وانطلاقاً من هذا الواقع البسيط تتفرع كل تلك الأفكار المتعلقة بالدولة وبنائها والمجتمعات وسيرورتها وعلاقات التبادل بشتى تفرعاتها، كما تنشأ الحروب وضروب السلام. ونعرف طبعاً أن هوبس، للبرهنة على تلك الفكرة وتأصيلها في فلسفته السياسية، وزعها على ما لا يقل عن ثلاثة مؤلفات أساسية هي "اللفياتان" (التنين)، الكتاب الذي أجمل فيه في عام 1651 كل تلك الأفكار بعدما كان قد استعرضها بالتفصيل في كتابين سابقين هما "عن المواطن" (1640) و"حول الطبيعة البشرية" (1650). والحقيقة أنه مهما كان غنى التفاصيل والأفكار التي وزعها هوبس على تلك المؤلفات الثلاثة، فإنها تصب معاً في تلك الفكرة البسيطة التي تمسك بها منذ البداية متعلقة بكون الإنسان في طبيعته ذئباً.
تأسيس الدولة
والحال أن ما ساعد هوبس، أساساً، على الوصول إلى صياغة تلك الفكرة إنما كان نزعته المادية الخالصة التي تفاقمت لديه على الضد من نزعات روحية كانت تسود عالم الفكر منذ القرون الوسطى، وحتى من دون أن تكون لها علاقة بقضايا الإيمان. فبالنسبة إلى هوبس لم تكن الأفكار نابعة من الشؤون الروحية بل من الأحاسيس، ومن هنا فإن أخلاقه التي يمكن وصفها بأنها نفعية حتى من قبل ولادة هذا المصطلح بقرون، تلك الأخلاق التي نجدها في أساس كتاب تأسيسي ومبكر له هو "حول القانون.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية
