في أواخر مارس (آذار)، شكل الزعيم الجديد لسوريا أحمد الشرع حكومة تصريف أعمال للإشراف على عملية الانتقال في البلاد بعد خمسة عقود من الحكم الديكتاتوري، ومنح بعض المناصب الوزارية لشخصيات من خارج دائرته الإسلامية، بما في ذلك تعيين امرأة مسيحية وزيرة للشؤون الاجتماعية، ومسؤول كردي وزيراً للتعليم، ووزير درزي للزراعة، ووزير علوي للنقل. وتعكس هذه التعيينات الضغوط التي يتعرض لها الشرع لإقناع الحكومات العربية والغربية، وكسب ثقة الشعب السوري، بأنه قادر على تشكيل حكومة شاملة تمثل الأقليات الدينية والإثنية في البلاد، وتزداد هذه المهمة صعوبة بعد موجة من سفك الدماء اندلعت في الشهر ذاته عندما استهدف مقاتلون مرتبطون بحكومة الشرع (لكنهم لا يخضعون لإمرتها المباشرة) الأقلية العلوية في غرب البلاد، مما أسفر عن مقتل المئات.
ومنذ أن اجتاح تنظيم "هيئة تحرير الشام"، الجماعة المتمردة التي يقودها الشرع، شمال غربي سوريا في ديسمبر (كانون الأول) 2024 وأسهم في الإطاحة بنظام الرئيس السوري بشار الأسد، تطرح القوى الخارجية سؤالاً عن مدى قدرة إسلاموي مثل الشرع على حكم ذلك البلد الكبير والمتنوع. بدعم تركي كانت "هيئة تحرير الشام" تسيطر على محافظة إدلب في شمال غربي البلاد خلال معظم سنوات الحرب الأهلية السورية وتمكنت من توسيع نفوذها في تلك المنطقة، لكن من غير الواضح ما إذا كان ما نجح في إدلب سينجح على نطاق سوريا بأكملها، كما تحيط الشكوك بمدى صدق اعتدال الشرع المعلن أيديولوجياً، فقد بدأت الجماعة كتنظيم جهادي متشدد متحالف مع تنظيم "القاعدة" وتنظيم الدولة الإسلامية (المعروف أيضاً باسم "داعش")، لكن خلال العقد الثاني من القرن الحالي انفصلت الهيئة عن كل من "القاعدة" و"داعش"، وأوضحت أن نضالها محلي ومحصور في سوريا، وبحلول عام 2020 كانت الهيئة تخوض معارك ضارية ضد قوى موالية لـ "القاعدة" و"داعش" في إدلب، وبعد إطاحته بالأسد بادر الشرع إلى التواصل مع الحكومات العربية والغربية، وحرص على تقديم نفسه كقائد معتدل يلتزم بحماية الأقليات الدينية والإثنية في البلاد.
في الوقت الراهن يمسك الشرع بزمام الأمور في دمشق، فالدستور الموقت ينص على أن تستمر الحكومة الانتقالية مدة خمسة أعوام قبل إجراء الانتخابات الرئاسية، مما يعني أن الشرع سيبقى في السلطة خلال المستقبل المنظور، وتظل الوزارات الأكثر نفوذاً بيد حلفاء الشرع وهو يتربع على قمة السلطة التنفيذية، وقد أُعلن الدستور الموقت في مارس الماضي، ويتضمن وثيقة حقوق تعترف بحرية المعتقد والرأي والمساواة أمام القانون، لكنه يمنح الشرع صلاحيات واسعة للغاية، إذ سيقوم بتعيين أعضاء المحكمة الدستورية ويختار ثلث مقاعد البرلمان، في حين تُعين المقاعد الباقية من قبل لجنة عليا يختار أعضاءها بنفسه، ويمكنه في أي وقت إعلان حال الطوارئ وإلغاء ما بقي من القيود المؤسسية الضعيفة على سلطته. يشعر كثير من المسؤولين الغربيين بالقلق من احتمال عودة البلاد لنظام الحزب الواحد، على غرار نظام الأسد، أما كثير من السوريين فيرون في الشرع، وهم على حق، براغماتياً متطرفاً ومستعداً لتقديم التنازلات والتخلي عن التزامات وتحالفات إشكالية، طالما أن ذلك يخدم سعيه الحثيث نحو السلطة.
ولكن لا يبدو أن الأمور تسير نحو عودة سوريا لحكم الفرد المطلق حتى وإن كان ذلك ما يتمناه الشرع في قرارة نفسه، فالنظام الذي يتشكل تحت قيادة الشرع يتضمن عناصر من الحكم السلطوي، إضافة إلى ملامح من تنظيم فدرالي ولا مركزي، ويواجه هذا النظام صعوبات كبيرة في ترسيخ سيطرته على سوريا وكسب تأييد جميع مكونات المجتمع السوري، فقيادة "هيئة تحرير الشام" تُحكم قبضتها على المستويات العليا في وقت تقدم تنازلات لمجموعات أخرى تسعى إلى دمجها في المستويات الدنيا، بما في ذلك الفصائل المسلحة الإثنية التي تسيطر على أجزاء من الجنوب والشرق، وقد بدأت هذه الجهود بالفعل تبلغ حدودها القصوى، إذ تعاني المستويات العليا اختناقاً إدارياً نتيجة تمركز القرار في أيدي عدد محدود من المسؤولين، إضافة إلى توجه انقسامي على الأرض بفعل مقاومة المجموعات المتنافسة لعملية استيعابها في النظام الجديد.
وطالما بقيت مجموعات عدة، مثل الميليشيات الدرزية في الجنوب الغربي والأكراد في الشمال الشرقي، خارج دائرة نفوذ "هيئة تحرير الشام"، فستظل الأخيرة تسيطر جزئياً فقط على سوريا، وفي مرحلة ما سيتعين على الهيئة إما استيعاب هذه المجموعات أو مواجهتها أو القبول الضمني بواقع فعلي لا تمارس فيه السيطرة على كامل الأراضي السورية، وفي حال عزوفها عن التحرك فستغدو مسألة إعادة تركيب الدولة المركزية أمراً مستحيلاً، كما تواجه سوريا مشكلات جدية وخطرة تشمل اقتصادها المنهار وإمكان تجدد الصراع الداخلي والتدخلات المزعزعة للاستقرار التي تقوم بها قوى خارجية، وبالتالي لن تقدر الحكومة الانتقالية على التعامل مع تلك القضايا كلها إذا استمر حال التنازع على السلطة في البلاد.
حلقات السلطة
لقد برهن الشرع و"هيئة تحرير الشام" على قدرتهما على المرونة والتكيف، فعندما سيطرت الهيئة على إدلب عام 2019 لم تكتف برفض تنظيميْ "القاعدة" و"داعش"، بل تخلت كذلك عن الجهادية والسلفية بشكل عام، واصطفت إلى جانب المذهب الشافعي في الفقه الإسلامي الذي يحظى بشعبية في أوساط السكان المحليين، كما تصالحت مع الصوفيين الذين كانت الهيئة في أشكالها السابقة تعتبرهم خصوماً، وتخلت الهيئة عن هدفها العلني السابق في تصحيح عقائد الناس وتنازلت عن كثير من معتقداتها الأيديولوجية وأطروحاتها السياسية، فعلى سبيل المثال قررت "الهيئة" العام الماضي تجميد قانون "الأمر بالمعروف" الذي اقترحه المحافظون في إدلب، والذي كان يفرض الفصل الصارم بين الجنسين في معظم الأماكن العامة ويقيد عدداً من المسائل الثقافية، بما في ذلك الموسيقى ولباس النساء والمثلية الجنسية، وفي يونيو (حزيران) 2020 شنت "الهيئة" حملة قمع ضد تنظيم "القاعدة" في إدلب بالتزامن مع حرب شاملة ضد تنظيم "داعش".
انبثقت هذه المقاربة من تقييم واقعي لموقع "الهيئة" في أواخر العقد الثاني من الألفية، فقد أدركت أنها لا تمتلك الكوادر الكافية لإدارة إدلب بفعالية، واضطرت إلى استمالة الغالبية الصامتة من المسلمين في المنطقة، أولئك الذين لا يدينون بالولاء القوي لأية جهة فاعلة، ويرجح أنهم يرفضون مواقف الهيئة الأيديولوجية الأكثر تشدداً، وقد عززت "الهيئة" سيطرتها على إدلب من خلال تقديم نفسها كبديل عن المتشددين مثل "القاعدة" و"تنظيم الدولة الإسلامية"، وكذلك عن نظام الأسد، وبهذا ضاقت المساحة أمام القوى السياسية المنافسة.
عملياً واصلت الهيئة تفويض جزء كبير من شؤون الحكم في إدلب، بما في ذلك قطاعات مثل التعليم والصحة، إلى أطراف ثالثة مثل المنظمات غير الحكومية الأجنبية، ولم تسمح بأية معارضة سياسية منظمة أو انتقادات لهيمنتها السياسية في المحافظة، لكن بحلول عام 2024 شعرت بالثقة الكافية في موقعها في إدلب، مما دفعها إلى تخفيف بعض مظاهر سيطرتها السلطوية، فأتاحت المجال أمام بعض منظمات المجتمع المدني ووسعت قاعدة التمثيل في البرلمان المحلي، وذلك بعد موجة احتجاجات شعبية اجتاحت المحافظة، وقد أظهر الشرع فطنة سياسية حين أدرك أن بقاء مجموعته يتطلب مزيجاً من الإبقاء على قبضته السياسية المحكمة وفتح هامش محدود وغير مهدد لحكمه أمام الأصوات المعارضة والبديلة.
شكلت تجربة إدلب نموذجاً اعتمد عليه الشرع في توسيع مشروعه، لكن حكم سوريا من دمشق ليس كحكم إدلب، وكما في إدلب لا يمكن لـ "الهيئة" أن تعتمد على كوادرها وحدهم في حكم البلاد، فالدولة أكبر بكثير وأشد تنوعاً من تلك.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية
