العلم يسلِّط الأضواء على حقيقة النرجسيين

كان مصطلح النرجسية -في السابق- محصوراً في علم النفس والأساطير الكلاسيكية، ولكنه اليوم أصبح متداولاً في الأحاديث اليومية. وانتقل هذا المصطلح من كونه مفهوماً يغلِّفه الغموض إلى أن أصبح شائعاً في الثقافة العامة ووسائل التواصل الاجتماعي؛ إلا أنه غالباً ما يُستخدم بصورة مفرطة في التبسيط، أو بصورة خاطئة.

في هذا السياق، نستعرض اضطراب الشخصية النرجسية (NPD) وفقاً لما يطرحه العلم، ونشرح الفروقات بين أنواعه، وما إذا كان بإمكان النرجسيين التغيير.

من الأسطورة إلى التشخيص الحديث

يرجع الاهتمام بالإعجاب المفرط بالذات إلى قصة نرجس في أعمال أوفيد؛ حيث وقع نرجس في حب انعكاس صورته حد الموت. وقد بدأ المصطلح يأخذ طابعاً طبياً في أواخر القرن التاسع عشر، حين استُخدم مصطلح «النرجسية» لوصف الإشباع الذاتي المفرط بالرضا.

وبحلول عشرينات القرن الماضي، استعان الأطباء النفسيون بالمصطلح للإشارة إلى اضطراب في الشخصية، ولكن لم يتم الاعتراف رسمياً باضطراب الشخصية النرجسية (narcissistic personality disorder) حتى عام 1980، عندما أُدرج في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM).

في المجمل، يتسم اضطراب الشخصية النرجسية بالشعور بالعظمة، والسعي المستمر لنيل الإعجاب، وانعدام التعاطف. ويميل المصابون إلى المبالغة في إبراز مواهبهم وإنجازاتهم، ويشعرون بأنهم يستحقون معاملة خاصة، ويحتاجون باستمرار إلى التقدير. ومع أن مظهرهم يوحي بالثقة، فإن هذا القناع يخفي خلفه هشاشة عاطفية وحساسية مفرطة تجاه النقد. ويمكن أن يمارس النرجسيون دور التلاعب بالآخرين دون إحساس بالذنب، وأحياناً يتجاوزون الحدود بالإساءة العاطفية أو الجسدية.

وتشير العالمة النفسية سارة ديفيز -مؤلفة كتاب «نشأتُ على يد نرجسيين»- إلى أن ليس كل النرجسيين مسيئين، إلا أن تلاعبهم وقيامهم بـ«التلاعب النفسي» (gaslighting) يجعل من الصعب أحياناً رصد الأضرار التي يسببونها. وتُعد النرجسية أحد أضلاع «الثالوث المظلم» من السمات الاجتماعية الضارة، إلى جانب «السيكوباتية» (psychopathy) (الافتقار إلى التعاطف من جهة والاندفاعية من جهة أخرى) و«المكيافيلية» (psychopathy) (التلاعب الاستراتيجي).

قياس النرجسية وانتشارها

تساعد أداة «اختبار الشخصية النرجسية» (Narcissistic Personality Inventory NPI) في قياس الميول النرجسية لدى عامة الناس. ومع ذلك، يتطلب التشخيص الرسمي تقييماً سريرياً، وهو أمر نادر الحدوث؛ لأن معظم النرجسيين لا يسعون لتلقي العلاج. وحسبما أوضحت ديفيز: «النرجسي الحقيقي دائماً ما يعتقد أن المشكلات سببها الآخرون».وتشير بحوث واسعة في الولايات المتحدة إلى أن نحو 6.2 في المائة من الناس يستوفون معايير اضطراب الشخصية النرجسية، بينما تشير دراسات أخرى إلى متوسطات أقل، تقارب 1 في المائة. ورغم التباين في الأرقام، يرى معظم علماء النفس أن النرجسية تشكل طيفاً. وهنا، توضح إيمي كوسكينن، من جامعة هلسنكي، أن الثقة الصحية بالنفس، والطموح، يمكن أن يكونا أمرين مفيدين، ولكن حين يبلغان حد المبالغة، فإنهما يؤديان إلى تدمير العلاقات الاجتماعية وإلى العزلة العاطفية.

مفارقة التعاطف

في حين يُعرف النرجسيون بافتقارهم إلى التعاطف، فإن الواقع في حقيقته أشد تعقيداً. وكشف تحليل أُجري عام 2023 أنهم قد يحتفظون بالتعاطف المعرفي -أي القدرة على إدراك مشاعر الآخرين- لكنهم يفتقرون إلى التعاطف العاطفي، أي القدرة على الشعور بهذه المشاعر.

ويعني ذلك أن النرجسيين قد يفهمون مشاعر الآخرين، ولكنهم يستخدمون هذه المعرفة للتلاعب بهم بدلاً من التعاطف معهم.

يتعايش هذا المنظور المتمركز حول الذات مع حساسية عاطفية مفاجئة، فالنرجسيون ليسوا بمنأى عن الألم؛ بل على العكس، لديهم قدرة عالية على رصد الرفض (من قبل الآخرين). وفي إحدى الدراسات، شارك أشخاص في لعبة كومبيوتر تُقصيهم عن التفاعل مع الآخرين. وأظهرت فحوصات الدماغ أن من سجلوا درجات أعلى في مقياس النرجسية، أظهروا نشاطاً أكبر في مناطق الدماغ المرتبطة بالضيق النفسي. ومن هنا تظهر المفارقة: فالنرجسيون يتوقون للإعجاب، ولكنهم يُجرَحون بسهولة من الإهانات البسيطة.

ودفعت هذه النتائج الباحثين إلى اعتبار النرجسية بمنزلة آلية دفاعية تحمي من شعور انعدام الأمان الداخلي؛ فالصورة المتضخمة للذات ما هي إلا درع تحمي الأنا الهشة. وتدعم بحوث كوسكينن هذا الطرح؛ إذ أظهرت تجارب تقيس مستويات التوتر في أثناء المحادثات الحميمة، أن المشاركين ذوي الدرجات العالية في النرجسية أظهروا علامات فسيولوجية أكبر ترتبط بالشعور بالتوتر، مثل زيادة التعرق عند الحديث عن مشاعرهم الشخصية. وتولد هذه الحاجة المستمرة لإثارة إعجاب الآخرين حالة من التوتر المزمنة.

دور الإقصاء في التعاظم

من جهتها، وجدت كريستيان بوتنر، من جامعة بازل، أن النرجسيين يميلون إلى تفسير الرفض الاجتماعي بشكل مبالغ فيه. فعند قراءة سيناريوهات افتراضية، افترض ذوو الدرجات الأعلى في النرجسية أنهم تعرضوا للإقصاء، حتى عندما لم يكن هناك ما يشير إلى تعمد ذلك. وفي دراسات الحياة اليومية، بالغوا في تقدير عدد المرات التي تعرضوا خلالها للنبذ، ما يشير إلى أن ذاكرتهم متحيزة نحو تذكُّر مواقف الرفض.

وقد يؤدي هذا الإحساس بالإقصاء إلى تضخيم السلوك النرجسي وإلى التعاظم؛ ففي دراسة طولية استمرت 14 عاماً أجرتها بوتنر، تبين أن الأفراد الذين شعروا بالتعرض للإقصاء أصبحوا أشد نرجسية مع مرور الوقت، ربما كآلية دفاعية ذاتية. ولأن السلوك النرجسي يؤدي إلى نفور الآخرين، فإن هؤلاء الأفراد يواجهون مزيداً من الإقصاء الحقيقي، ما يخلق دورة متكررة من الدفاعية والتعاظم. كلما زاد رفضهم، ازداد تضخمهم وتركيزهم على ذواتهم.

نرجسية متضخمة ونرجسية.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من صحيفة الشرق الأوسط

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من صحيفة الشرق الأوسط

منذ ساعتين
منذ 10 ساعات
منذ 10 ساعات
منذ 9 ساعات
منذ 7 ساعات
منذ 11 ساعة
قناة روسيا اليوم منذ 7 ساعات
قناة العربية منذ 11 ساعة
قناة روسيا اليوم منذ 13 ساعة
سي ان ان بالعربية منذ 12 ساعة
قناة العربية منذ 6 ساعات
سي ان ان بالعربية منذ 11 ساعة
قناة العربية منذ 18 ساعة
قناة روسيا اليوم منذ 14 ساعة