صناديق الثروة السيادية.. لاعب مؤثر في صناعة الإعلام العالمية

تتجاوز محاولة الإخوة لاري وديفيد إليسون الاستحواذ على «وارنر براذرز ديسكفري» (Warner Bros. Discovery) بدعم محتمل من صناديق الثروة السيادية في الخليج إطارَها كصفقة تجارية ضخمة، لتصبح مؤشراً على تحوّل أعمق في تدفقات رأس المال العالمية.

بحسب تقارير مجلة «فاريتي» (Variety) ووكالة «بلومبرغ» (Bloomberg)، يدرس مالكا «باراماونت» (Paramount) الاستعانة بتمويل سيادي لتمكين عرض الاستحواذ الشامل على «وارنر براذرز ديسكفري»، في خطوة تعكس انتقالاً نوعياً لرأس المال الخليجي نحو امتلاك أصول ثقافية وإعلامية استراتيجية ترتبط بالبنية الاقتصادية للمعرفة والاقتصاد الرقمي.

وإذا اكتمل الاندماج، فسيتولد أحد أكبر الكيانات الإعلامية في العالم، يجمع بين استوديوهات سينمائية وتلفزيونية، ومنصات بث رقمية، وشبكات إخبارية واسعة الانتشار، في لحظة يواجه فيها القطاع الأميركي ضغوطاً مالية وهيكلية حادة.

«باراماونت» تشعل المنافسة مع «نتفليكس» بعرض ضخم لشراء «وارنر براذرز»

من المالية التقليدية إلى الاستثمار التحويلي

الاهتمام الخليجي المتزايد بصفقات الإعلام ليس تطوراً معزولاً، بل تعبير عن استراتيجية تنويع مالي واقتصادي طويلة المدى. فوفق البيانات الاقتصادية لعام 2025، استحوذت صناديق الثروة الخليجية على 40% من التدفقات الاستثمارية الخارجية العالمية خلال الأشهر التسعة الأولى من العام، وهي أعلى نسبة لها على الإطلاق.

وتشير «ديلويت الشرق الأوسط» (Deloitte Middle East) إلى أن أصول هذه الصناديق مرشحة للوصول إلى 18 تريليون دولار بحلول 2030، ما يضعها في موقع يمكنها من تمويل صفقات ضخمة تحتاج سيولة واستقراراً طويل الأجل، خصوصاً في قطاعات تعاني ضغطاً تشغيلياً مثل الإعلام.

الجاذبية الاقتصادية لقطاع الإعلام

رغم أن دخول رؤوس الأموال الأجنبية إلى هوليوود ليس أمراً جديداً، فقد سبقت «سوني» (Sony) اليابانية وغيرها إلى امتلاك أصول سينمائية أميركية، فإن خصوصية الصفقة التي يسعى إليها الإخوة إليسون اليوم تتمثل في طبيعة رأس المال نفسه وفي التوقيت الذي تأتي فيه. فالصناديق السيادية الخليجية لا تتعامل مع الإعلام كقطاع ترفيهي، بل كأصل اقتصادي قابل لإعادة الهيكلة، وفي لحظة تمر فيها الصناعة بمرحلة إعادة تسعير جذرية.

وتكتسب جاذبية القطاع اليوم بُعداً إضافياً نتيجة التراجع الحاد في تقييمات شركات الإعلام الأميركية، بفعل انخفاض الإيرادات الإعلانية وارتفاع مستويات الديون وتعثر نماذج البث الرقمي. هذا الانخفاض لا يُقرأ كدلالة على تراجع القيمة، بل كإشارة إلى وجود أصول قوية لكنها غير مستغلة بكفاءة، وهي أصول تمتلك حقوق محتوى ضخمة، وسلاسل توزيع عالمية، وإمكانات لتحقيق عائد مستقبلي عند إعادة هيكلتها.

في هذا السياق، يشكّل الاندماج المحتمل بين «وارنر براذرز ديسكفري» و«باراماونت» نموذجاً مثالياً لاستفادة المستثمر طويل الأجل من وفورات الحجم، إذ يتيح دمج البنى الإنتاجية والتقنية وخفض التكاليف الثابتة، ما ينشئ كياناً أكثر قدرة على استعادة الربحية في سوق تتجه نحو التمركز حول عدد محدود من اللاعبين.

صورة جوية لشعار نتفليكس معروضاً في استوديوهات نتفليكس، مع لافتة هوليوود في الأفق، في لوس أنجلوس، بولاية كاليفورنيا الأميركية، في يوم 5 ديسمبر 2025

ويتقاطع ذلك مع التحول الاستراتيجي الأوسع داخل الخليج نحو اقتصاد المحتوى، حيث أصبحت الصناديق السيادية من أكثر المستثمرين نشاطاً في حقوق البث، واستوديوهات الإنتاج، وشركات الألعاب الإلكترونية.

لا يرتبط هذا التوجّه برغبة في تحقيق عوائد سريعة، بقدر ما يعكس سعياً لبناء منظومة متكاملة من الأصول الفكرية يمكن استثمارها عبر قنوات متعددة تمتد من الإنتاج السينمائي إلى البث الرقمي والألعاب الإلكترونية والإعلان. فهذه الأصول، بطبيعتها القابلة لإعادة التوظيف التجاري والتكنولوجي، تمنح المستثمر القادر على الانتظار فرصة لالتقاط القيمة التي تتراكم تدريجياً مع توسّع استخدام المحتوى.

وبما أن هذا النوع من الاستثمارات يحتاج إلى دورات زمنية أطول وإلى قدرة على تحمّل تقلبات السوق، فإن الصناديق السيادية تتمتع بأفضلية واضحة مقارنة بالمستثمر المؤسسي التقليدي الذي تحدّه متطلبات العوائد القصيرة الأجل وضغوط التقارير الفصلية.

توازنات تنظيمية دون حاجز فعلي

لا يُعد النقاش حول دخول حكومات أجنبية، عبر صناديقها السيادية، إلى هياكل ملكية الشركات الإعلامية الأميركية أمراً مستجداً؛ فهو حاضر في كل مرحلة تشهد فيها الصناعة تغيّراً في خرائط التمويل. ومع ذلك، تُظهر مذكرة شركة «سكادِن» (Skadden) القانونية أن الإطار التنظيمي الأميركي لا يمانع هذا النوع من الاستثمارات ما دامت تأتي في صورة حصص أقلية غير مسيطرة.

وتُظهر التجارب التنظيمية في السوق الأميركية أن الجهات الرقابية باتت تُعطي أولوية لتقييم الأثر التنافسي للكيان الناتج عن الاندماج، أكثر من تركيزها على طبيعة الخلفية السيادية للمستثمرين. فالمعيار الحاسم، وفق خبرات السوق، لا يتعلق بهوية المموّل بقدر ما يرتبط بقدرة الكيان الجديد على إعادة تشكيل المشهد التنافسي في قطاع تتراجع فيه الإيرادات التقليدية وتتآكل فيه نماذج الأعمال القديمة تحت ضغط التحول الرقمي.

من هذا المنظور، لا تتمحور المخاوف الأساسية حول المحتوى أو الجوانب التحريرية، بل حول احتمال نشوء نفوذ اقتصادي مفرط لكيان يمتلك حصة وازنة من الإنتاج والتوزيع وحقوق البث، ضمن صناعة تتجه بسرعة نحو التركز وتقليص عدد المنافسين القادرين على البقاء. وفي ظل هذا السياق، يصبح تقييم الاندماج من زاوية الهيمنة السوقية أمراً أكثر إلحاحاً من القلق على ملكية الحصص أو مصادر التمويل.

بـ26 مليار دولار.. عرض مشترك من "سوني" و"أبولو" لشراء "باراماونت"

الخليج يعيد تشكيل الصناعة

يشير احتمال دخول التمويل السيادي الخليجي في صفقة بهذا الحجم إلى تغير جذري في دور المنطقة داخل الاقتصاد العالمي. فالخليج ينتقل من موقع «المنتج المالي الفائض» إلى مركز استثمار استراتيجي يسهم في إعادة هندسة قطاعات عالمية كاملة، وفي مقدمتها الإعلام.

وإذا نجحت الصفقة، فقد تكون المثال الأبرز على تحوّل التمويل السيادي من مجرد رأس مال داعم إلى رافعة بنيوية في صناعة تمر بمرحلة إعادة تعريف شاملة، من نماذج الأعمال إلى ملكية المحتوى.

وبينما لا تزال نتيجة عرض الإخوة إليسون غير محسومة، فإن اتجاهات رأس المال تشير إلى أن ملكية وتمويل الإعلام الأميركي مقبلان على مرحلة مختلفة تماماً تتداخل فيها القوى المالية السيادية مع مستقبل صناعة الترفيه العالمية.


هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من إرم بزنس

منذ ساعة
منذ 3 ساعات
منذ ساعتين
منذ 31 دقيقة
منذ 11 ساعة
منذ 42 دقيقة
قناة CNBC عربية منذ 16 ساعة
قناة CNBC عربية منذ 14 ساعة
قناة CNBC عربية منذ 7 ساعات
قناة CNBC عربية منذ 16 ساعة
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 14 ساعة
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 14 ساعة
قناة CNBC عربية منذ 21 ساعة
قناة CNBC عربية منذ 18 ساعة