على غير ما توقعته الأسواق مع بداية عام 2025، لم يُكمل الدرهم المغربي الأسابيع الأولى من العام إلا وهو يهبط إلى أدنى مستوى له أمام الدولار عند 0.09882 دولار في الثاني من يناير، قبل أن يبدأ رحلة صعود معقّدة ومتدرّجة، انتهى بها إلى تسجيل أعلى مستوى سنوي في 16 سبتمبر عند 0.1116 دولار.
مسار بدا ظاهرياً متذبذباً، لكنه عند الفحص الدقيق يُظهر خليطاً من الضغوط الخارجية القاسية، والانعكاسات الموسمية، وتصاعد قوة الاقتصاد المغربي في النصف الثاني، مع تدخلات محسوبة من بنك المغرب.
ووفق متوسط التداول السنوي، ظلّ الدرهم يتحرك قرب 0.107 دولار خلال العام، لكنّ الأرقام وحدها لا تفسر القصة، فالقصة الحقيقية تُروى بلسان حركة التجارة، وموجات الدولار، وعائدات السياحة، وقرارات البنوك المركزية، ومحركات الاستثمار، وهي العناصر التي أعادت تشكيل موقع الدرهم داخل السوق الدولية.
صناعة وموانئ واستثمار.. كيف يصنع المغرب سمعته في خارطة الأعمال؟
لماذا بدأ الدرهم ضعيفاً في مطلع 2025؟
يرى علي الغنبوري المحلل الاقتصادي المغربي ورئيس مركز الاستشراف الاقتصادي والاجتماعي أن تفسير الضعف الأولي للدرهم لا يمكن فصله عن البيئة النقدية العالمية، فالدولار، كما يقول، بدأ العام «قوياً بشكل ملحوظ بفعل تشديد السياسة النقدية الأميركية وارتفاع أسعار الفائدة»، وهو ما ضغط على «معظم العملات الناشئة ومنها بطبيعة الحال الدرهم».
وأضاف الغنبوري لـ«إرم بزنس»: «هذه الخلفية الدولية تزامنت مع ارتفاع فاتورة الواردات المغربية في الربع الأول، خصوصاً المواد الطاقية، ما رفع الطلب على الدولار داخل السوق المحلية وأضعف العملة الوطنية».
يتقاطع ذلك مع ما يؤكده رشيد الساري الخبير والمحلل الاقتصادي المغربي رئيس المركز الإفريقي للدراسات الاستراتيجية والرقمنة، الذي يرى أن قوة العملة الأميركية في بداية 2025 كانت العامل الأكثر تأثيراً، لكنه يضيف زاوية أخرى: «الضغوط الخليجية المرتبطة بالتدفقات النفطية والتسعير بالدولار، وهي ضغوط غير مباشرة لكنها فعالة في بداية كل عام مالي».
وتُظهر بيانات مكتب الصرف انحياز سوق العملات لصالح الدولار في تلك الفترة، إذ ارتفع العجز التجاري في النصف الأول إلى 161.86 مليار درهم بزيادة 18.4%، فيما بلغت الواردات 398 مليار درهم مقابل صادرات بـ236 مليار درهم فقط.
الفجوة الكبيرة بين الواردات والصادرات زادت من عطش السوق للدولار، وهو ما يجعل تفسير الانخفاض الأولي للدرهم مسألة مرتبطة بالأساس بتمويل التجارة لا بالصرف ذاته.
ويضيف ساري في حديثه لـ«إرم بزنس» أن تباطؤ تدفقات الاستثمار والسياحة في يناير وفبراير أدى إلى تراجع دعم العملة الصعبة، فانعكس مباشرة على سعر الدرهم، بينما تشير الأرقام الرسمية إلى أن تحويلات المغاربة بالخارج في النصف الأول بلغت 55.8 مليار درهم فقط، بتراجع 2.6%.
هذه الأسباب جميعاً خلقت ما يشبه «الضباب الأولي» حول الدرهم في مطلع 2025، لكنه ضباب بدأ ينقشع تدريجياً مع تغيّر معادلة المعروض من العملة الصعبة.
تذبذبات 2025
أما فيما يتعلق بأسباب تذبذب الدرهم طوال 2025 فيصف الخبير الاقتصادي عبد الخالق التهامي أستاذ الاقتصاد بالمعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي أداء الدرهم خلال العام بأنه «عادي بالنسبة لعملة تتأثر بطبيعة الحال بمداخيل العملة الصعبة»، لكنه يوضح أن التقلبات جاءت نتيجة تفاعل مستمر بين عناصر متغيرة مثل عائدات السياحة، وتحويلات الخارج، ومستوى الصادرات، وفاتورة الواردات.
ويشير التهامي لـ«إرم بزنس»، إلى أن عام 2025 شهد «فاتورة طاقيّة أقلّ بفضل أسعار النفط والغاز المناسبة للمغرب، وهو ما خفّف الضغط على العملة مقارنة بالأعوام السابقة، لكن التذبذب ظل قائماً، خصوصاً في النصف الأول، تحت تأثير حركة أسعار الطاقة والمواد الأولية عالمياً».
أما رشيد الساري فيقدّم تفسيراً أكثر تفصيلاً لهذه التقلبات: «فالمغرب يستورد حوالي 90% من احتياجاته الطاقية؛ ما يجعله معرضاً لتقلبات أسعار السوق إضافة لارتباط الدرهم بسلة عملات (60% يورو، 40% دولار)، ما يجعل أي اهتزاز في هذه العملات ينعكس مباشرة على موقع الدرهم.
كذلك تدخلات بنك المغرب عبر السوق النقدية لضبط الاستقرار، مع ترك هامش للحركة داخل نظام الصرف المرن علاوة على التأثيرات الجيوسياسية، كالحرب في أوكرانيا، وتوترات الشرق الأوسط، والحرب الإيرانية الإسرائيلية، وحرب غزة، جميعها عوامل أصابت تدفقات العملة الصعبة بدرجات متفاوتة، بحد قوله.
نقطة التحول
في مطلع الربع الثاني، بدأت الصورة تتغير، فعائدات السياحة ارتفعت إلى 54 مليار درهم في النصف الأول، بزيادة 9.6%، كما قفز الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 16.8 مليار درهم، بزيادة كبيرة بلغت 59%، ما ضاعف من تدفقات الدولار واليورو نحو السوق المغربية.
ويؤكد عبد الخالق التهامي، أن هذه المداخيل «كانت مهمة جداً»، مشيراً إلى أن المغرب بلغ «مستويات قياسية من عدد السياح» وأن تحويلات المغاربة بالخارج عادت للارتفاع في النصف الثاني، هذه التدفقات مجتمعة جعلت وضعية الاحتياطي الأجنبي «مريحة»، إذ وصل الاحتياطي إلى ما يقارب 402 مليار درهم (40.2 مليار دولار) في يونيو 2025، مع توقعات بارتفاعه إلى حوالي 431 مليار درهم في أواخر عام 2025 وهي نسبة يراها التهامي «مريحة جداً».
هذا الوضع المستقر كان، بحسب علي الغنبوري، سبباً رئيسياً في تحول مسار الدرهم نحو الصعود، إذ «تحسن المعروض من الدولار بفضل قوة الموسم السياحي وارتفاع تدفقات الاستثمار، ما دفع الدرهم إلى تسجيل أعلى مستوى له في سبتمبر».
ويضيف الخبير الاقتصادي رشيد ساري، عنصراً بالغ الأهمية، وهو أن تراجع قوة الدولار عالمياً في الربع الأخير مع بدء تخفيف السياسة النقدية الأميركية، منح العملات الناشئة مثل الدرهم مساحة أكبر للصعود.
كما يشير رشيد ساري، إلى أن المغرب «حقق رقماً قياسياً بلغ 18 مليون سائح بحلول نوفمبر»، بعائدات ارتفعت بأكثر من 13%.
أسباب الارتفاع في نهاية العام
بحسب الخبراء الاقتصادين، حدثت تحولات في الربعين الثالث و الأخير، حيث دخلت مجموعة من العوامل المعززة التي تدعم قوة الدرهم وهي الصادرات المغربية خصوصاً الفوسفات والسيارات التي شهدت تحسناً ملحوظاً ساهم في دعم الاحتياطي وانتعاش السياحة بشكل غير مسبوق ومع بداية تخفيف الفيدرالي الأميركي لسياسته النقدية، فقد الدولار بعض زخمه، ما أتاح للدرهم التحرك صعوداً.
توقعات النمو عند 4.6% في 2026، والتضخم عند 2%، وزيادة ثقة المؤسسات المالية الدولية كلها رسائل إيجابية، بحسب الخبير الاقتصادي المغربي رشيد ساري الذي يقول إنها عززت «ثقة المستثمرين ودعمت العملة».
هذه المعطيات شكّلت ما يمكن اعتباره «قاعدة صلبة» سمحت للدرهم بإغلاق العام على وضع أقوى من بدايته، في مسار يعكس قدرة الاقتصاد المغربي على امتصاص الصدمات وإعادة ترتيب توازنه.
معدل البطالة في المغرب يتراجع إلى 13.1% خلال الربع الثالث
ماذا يعني ارتفاع الدرهم للاقتصاد المغربي؟
يقدم الخبراء الثلاثة رؤية متقاربة حول انعكاسات ارتفاع الدرهم وهي انخفاض تكلفة الواردات، وتراجع التضخم، والضغط على تنافسية بعض الصادرات.
ويرى علي الغنبوري، أن قوة الدرهم «تخفف الضغط على ميزانية الدولة وتحدّ من التضخم المستورد، خاصة في المواد الطاقية والحبوب».
ويتفق معه عبد الخالق التهامي، الذي يؤكد أن انخفاض فاتورة الواردات «مفيد للاقتصاد المغربي، خصوصاً في ظل أسعار الطاقة المناسبة».
ومع هذا يحذر التهامي من أن تحسن قيمة الدرهم «قد يؤثر على تنافسية الصادرات المغربية في الخارج»، خصوصاً في قطاعات التسعير بالدولار.
ورغم التحسن في سعر الصرف، ظل العجز التجاري مرتفعاً عند 161.86 مليار درهم في النصف الأول، وهو ما يراه الخبراء مؤشراً على أن «تحسن السعر ليس كافياً وحده لتهدئة فجوة الاستيراد».
هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس

