مصدر الصورة: BBC
شهد ربيع عام 1988 واحدة من أكثر اللحظات حساسية في تاريخ العلاقات السعودية-الأمريكية.
فلم تكد تسعة أشهر تمضي على تولّي السفير الأمريكي هوم هوران مهامه في الرياض، حتى أبلغت المملكة واشنطن بأنها لا ترغب في الاستمرار بالتعامل معه، في سابقة غير مألوفة.
ورغم تأكيد مسؤولين في وزارة الخارجية الأمريكية لصحف أمريكية آنذاك أنّ "لا سبب واحدا يقف وراء إنهاء مهام" الدبلوماسي المخضرم، فإن التوقيت كان لافتا.
فقد جاء القرار بعد أسابيع فقط من تَكشُّف شراء السعودية، سرا، صواريخ باليستية من الصين، في خطوة فاجأت واشنطن واعتُبرت خروجا على اعتماد الرياض الطويل على السلاح الأمريكي.
وفي مقابلة تلفزيونية عام 2021، قال أحمد القطان وزير الدولة السعودي للشؤون الإفريقية حينها، إن الملك فهد، الذي حكم السعودية بين عاميْ 1982 و2005، غضب من لهجة هوران، الذي كُلّف بإيصال رسالة احتجاج رسمية من واشنطن بشأن الصفقة الصينية.
وأضاف القطان أن الملك أقسم يومها "ألا يبيت هوران في الرياض"، وبالفعل نُقل السفير تلك الليلة إلى الظهران شرقي المملكة، ومنها إلى واشنطن دون عودة، بحسب قطان.
وبغضّ النظر عن التفاصيل الدقيقة للواقعة، فقد كشفت استعداد الرياض للبحث عن بدائل خارج المظلّة الأمريكية حين تتردد واشنطن في تلبية طلباتها الدفاعية، ومثّلت أول إشارة إلى تطوّر العلاقات السعودية-الصينية، التي ستتبدّل ملامحها بالكامل خلال العقود التالية.
تغيّر الكثير منذ ذلك الوقت. فالصين التي كانت قوة ناشئة في أواخر ثمانينات القرن الماضي، أصبحت اليوم قوة عظمى تنافس الولايات المتحدة في مجالات التكنولوجيا والطاقة النظيفة والذكاء الاصطناعي، وهي مجالات تشكّل ركائز أساسية في رؤية "السعودية 2030" لتنويع اقتصاد المملكة بعيدا عن النفط. ما يضع الرياض، أكثر من أي وقت مضى، بين مسارين متوازيين تمثّلهما كل من واشنطن وبكين.
"علاقة شخصية حميمة" يؤكد الكاتب والمحلل السعودي علي الشهابي، أن العلاقة بين الرياض وواشنطن "علاقة مؤسسية راسخة منذ عقود"، مشيرا إلى أنها "ظلت متينة حتى في المراحل التي شابتها توترات سياسية".
ويرى الكاتب، المقيم في الولايات المتحدة، أن العلاقة اليوم هي في "أفضل حالاتها"، نظرا لما يصفه بـ"العلاقة الشخصية الحميمة"، التي تربط بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
ويشير الشهابي إلى أن هذا الأمر تجلّى بوضوح خلال الزيارة الأخيرة التي أجراها بن سلمان إلى العاصمة الأمريكية، والتي شهدت توقيع حزمة واسعة من الاتفاقات، امتدت من التعاون الدفاعي، إلى التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي.
لكنه يشدد في المقابل، على أنّ ارتباط بن سلمان بواشنطن، لم يكن وليد هذه العلاقة فحسب، بل ظل قويا حتى في أكثر اللحظات حساسية، بما في ذلك مرحلة ما بعد مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي عام 2018.
فعلى الرغم من أن القضية أثارت حينها غضب الكونغرس والرأي العام الأمريكي، يؤكد الشهابي أنّ "هذا الملف طُوي منذ وقت طويل"، بدءا من زيارة الرئيس جو بايدن إلى جدة في يوليو/تموز 2022، وما تبعها لاحقا من زيارة الرئيس ترامب إلى الرياض في مايو/أيار من العام الجاري، وصولا إلى زيارة ولي العهد الأخيرة إلى الولايات المتحدة.
وبينما يتفق كثيرون مع قراءة الشهابي، بأن زيارة الأمير محمد بن سلمان الأخيرة إلى واشنطن جسّدت عمق الشراكة السعودية-الأمريكية، فإن هناك من يرى أن هذه الزيارة انطوت أيضا على بُعد آخر بدا لافتا.
فالقطاعات التي توسّعت عبرها الاتفاقات السعودية-الأمريكية، من الذكاء الاصطناعي إلى الصناعات المتقدمة والطاقة، هي نفسها التي بنت من خلالها بكين حضورها المتنامي والعميق داخل الاقتصاد السعودي خلال السنوات الماضية. وهكذا بدت الصين، وإن غابت عن المشهد السياسي المباشر للزيارة، حاضرة بقوة في الخلفية.
يؤكد الباحث في معهد واشنطن، جون روملي، هذا الحضور الخفي للصين.
ويشير إلى أن توسّع التعاون السعودي-الأمريكي في مجالات التكنولوجيا والدفاع، يرتبط مباشرة بطموحات المملكة لمرحلة ما بعد النفط. فالسعودية تسعى، بحسبه، إلى بناء اقتصاد متنوع، يقوم على الصناعات المتقدمة والذكاء الاصطناعي والتقنيات العسكرية، بما يتيح لها التحول إلى "مركز تكنولوجي وعسكري عالمي وتعزيز نفوذها الإقليمي والدولي".
ويضيف: "السعوديون يرون دولا مثل تركيا وكوريا الجنوبية وإسرائيل، والتي تمتلك قطاعات تكنولوجية وعسكرية متقدمة وتستخدمها لتعزيز قوتها الاقتصادية وخدمة مصالحها وهم يريدون ذلك أيضا."
لكن هذه الطموحات، برأيه، تضع السعودية في قلب التنافس الأمريكي-الصيني، فواشنطن وبكين تستثمران بقوة في القطاعات نفسها التي تراهن عليها الرياض، وتبنيان شبكات نفوذ عبر التكنولوجيا والدفاع والطاقة النظيفة، ما يجعل المملكة لاعبا محوريا في هذا "التنافس العالمي" بينهما.
الصين: "الزبون الأهم" عندما وافقت الصين على بيع السعودية صواريخ باليستية عام 1988، لم تكن بين البلدين علاقات دبلوماسية كاملة. فتبادل السفراء بينهما لم يحدث إلا في عام 1990، حين اعترفت السعودية رسميا بجمهورية الصين الشعبية، وسحبت اعترافها بتايوان.
في تلك المرحلة، كانت بكين قد تجاوزت الإطار "الأيديولوجي الثوري"، الذي يقول الدكتور جاي بورتن، مؤلف كتاب " الصين وصراعات الشرق الأوسط"، إنه طبع علاقاتها بالدول العربية في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
لكن رغم هذا، لم تكن بكين تنظر للخليج بعد، "كساحة استراتيجية مهمة لها"، كما يؤكد بورتن، فهي لم تكن قد دخلت بعد مرحلة الاعتماد المتزايد على واردات الطاقة.
لكن ذلك تغيّر جذريا بعد عام 1993، حين أصبحت الصين مستوردا للنفط، لتبرز الدول العربية النفطية، وعلى رأسها السعودية بسرعة، بوصفها مورّداً رئيسياً، لسلعة أصبحت تمثّل عصب النمو الاقتصادي الصيني.
عمّق هذا التغير من العلاقة الاقتصادية التي ربطت الصين بالسعودية وغيرها من دول الخليج، والتي استندت إلى مبدأ "النفط مقابل السلع المُصنَّعة"، دون أن يكون لها أبعاد سياسية أو أمنية كبيرة.
ويقول الباحث في مركز واشنطن غرانت روملي إن هذا الطابع الاقتصادي الخالص للعلاقة كان مريح للسعودية وغيرها من دول الخليج، التي رأت في بكين شريكا لا يربط تعامله بقضايا الديمقراطية أو حقوق الإنسان، ولا يتدخل في شؤونها الداخلية، بخلاف المقاربة الغربية التقليدية.
بدوره يؤكد الباحث السعودي علي الشهابي، أن هذا الارتباط النفطي، ما زال يشكّل حجر الأساس، في العلاقات السعودية-الصينية، رغم توسّع هذه العلاقات في مجالات أخرى خلال العقد الأخير.
ويقول: "الصين أكبر مستورد للبترول السعودي، وهذا وحده يجعل العلاقة بين البلدين، علاقة استراتيجية لا يمكن المساس بها فإذا كان النفط هو الملك، فالصين هي الزبون الأهم."
بالنسبة للشهابي، تمثل علاقة الاحتياج المتبادل تلك، واقعا اقتصاديا "تقرّ به واشنطن"، وتدرك أنه لا "يمكن لها تغييره".
تعكس الأرقام هذا التحليل؛ إذ تظهر أن الصين كانت في السنوات الأخيرة، تستورد نحو 48 مليون برميل من النفط السعودي شهريا ما يعادل نحو 1.5 إلى 1.6 مليون برميل يوميا - لتظل أكبر مشترٍ للخام السعودي بفارق واسع.
في المقابل، تراجعت الصادرات النفطية السعودية إلى الولايات المتحدة، إلى نحو 300 ألف برميل يومياً فقط، بعد أن كانت تتجاوز مليون برميل يومياً مطلع الألفية، في تحول يعكس انتقال الثقل النفطي نحو الشرق.
"معادلة كوينسي" النفط شكل كذلك الركيزة الأساسية للعلاقة التي جمعت السعودية بالولايات المتحدة.
بدأ هذا المسار مع منح الرياض حق التنقيب عن نفطها لشركة "ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا" الأمريكية في ثلاثينات القرن الماضي، قبل أن يتكرّس أكثر عام 1945 خلال اللقاء الذي جمع العاهل السعودي وقتها عبد العزيز آل سعود مع الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت على متن البارجة "كوينسي"، والذي نسج خلاله الزعيمان ما أصبح لاحقا أساس ما بات يُعرف بـ "معادلة كوينسي": دعمٌ أمني أمريكي لمملكة كانت حينها ناشئة ومحاطة بجيران أقوى منها، مقابل ضمان الحصول على إمدادات مستقرة من نفط هذا البلد.
ورغم تراجع اعتماد واشنطن على النفط السعودي، يرى الكاتب علي الشهابي أن المملكة لا تزال تنظر إلى الولايات المتحدة بوصفها "الشريك الأمني الأهم والأكثر موثوقية".
لكن هذه الشراكة لم تكن دائما على مستوى التوقعات السعودية، بحسب الشهابي، الذي يشير إلى شعور الرياض بـ"خيبة أمل" إزاء ردّ الفعل الأمريكي على الهجوم الذي استهدف منشآتها النفطية عام 2019، وأعلنت جماعة أنصار الله الحوثية في اليمن مسؤوليتها عنه.
مع ذلك، يؤكد الكاتب السعودي المقيم في واشنطن، أن الاتفاق الأمني الذي تم التوصل إليه خلال زيارة الأمير محمد بن سلمان الأخيرة إلى الولايات المتحدة، "يسدّ هذه الثغرة" ويعيد ترتيب أسس التعاون الدفاعي بين الجانبين.
يتفق الباحث في معهد واشنطن غرانت روملي مع هذه الرؤية، إذ يشير إلى أن الاتفاق يمثّل "ترقية نوعية" للعلاقة الأمنية بين البلدين، لأنه يفتح المجال "أمام تعاون دفاعي أوسع بكثير، من مجرد صفقات السلاح التقليدية".
ورغم أن سبع دول عربية هي: مصر، والأردن، والبحرين، والكويت، وقطر، وتونس، والمغرب، سبقت السعودية إلى نيل صفة "حليف رئيسي من خارج الناتو" التي تم الإعلان عن منحها للرياض خلال زيارة بن سلمان الأخيرة، يرى روملي، أن السعودية حظيت بما لم تحصل عليه أي دولة عربية.
إذ يشير إلى إعلان موافقة إدارة ترامب على بيع السعودية أنظمة عسكرية متطورة من بينها طائرات F-35.
لا يزال إتمام هذه الصفقة بحاجة إلى موافقة الكونغرس، لكن روملي يقول إنّ واشنطن قدّمت للرياض هذا الامتياز، دون أن تربطه بانضمام المملكة للاتفاقات الإبراهيمية، على خلاف ما حدث مع الإمارات التي تم ربط بيع هذه الطائرات لها بتوقيعها على تلك الاتفاقات عام 2020، قبل أن تتعثر الصفقة لاحقا لأسباب فنية وسياسية.
ويرى روملي أن هذه الخطوة من جانب إدارة ترامب تجاه الرياض، تعكس رغبة واضحة من جانب واشنطن في "دمج السعودية في المعادلة الأمنية والتكنولوجية الأمريكية"، ومنحها موقعا متقدما داخل تكتل الحلفاء، الذين يحصلون على أكثر المنظومات حساسية في ترسانة الولايات المتحدة.
وبعيدا عن صفقات الأسلحة، يؤكد علي الشهابي أن الولايات المتحدة تظل الشريك الوحيد القادر "على توفير المظلّة الأمنية التي تحتاجها السعودية"، بفضل حضورها العسكري الواسع في الخليج، ومنظومات الردع والدفاع التي بنتها عبر عقود.
ويقول إن هذه كلها أمور تعجز الصين عن القيام بها كونها "ليست قوة عسكرية فاعلة في الشرق الأوسط"، ولا تمتلك شبكة التحالفات أو البنية العملياتية، التي تسمح لها بلعب دور أمني مماثل للدور الأمريكي.
يتفق الدكتور جاي بورتن مع هذه الرؤية، ويشير إلى أن دور الصين في الجانب الأمني يبقى "تكميليا".
يؤكد بورتن أن ما تقدّمه بكين للرياض اليوم من مسيّرات مسلحة أو أنظمة تسليح ترفض واشنطن بيعها للمملكة، يبقى في إطار سدّ الفراغات، وليس إعادة تشكيل معادلة الأمن الإقليمي.
فانخراط الصين مع دول الخليج العربية، بحسبه، كان ذا طابع "اقتصادي وتنموي" بالدرجة الأولى.
شراكة الرؤى في هذا الإطار توسعت العلاقة بين السعودية والصين، من مجرد صيغة "النفط مقابل السلع المُصنَّعة"، لتشمل التعاون في مجالات التكنولوجيا، والاتصالات، والطاقة المتجددة، بالإضافة إلى بعض الجوانب الدفاعية، والبنية التحتية الرقمية، بل وحتى بحث التعاون في مجال الطاقة النووية السلمية، حسبما يؤكد بورتون.
وبالفعل شهد العقد الأول من الألفية، تنفيذ شركات صينية مشاريع بنى تحتية ومقاولات داخل المملكة.
لكن النقلة النوعية حصلت مع إطلاق الصين مبادرة "الحزام.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من بي بي سي عربي
