ما بعد «قيصر».. رفع العقوبات ليس عصاً سحرية بل نقطة «ما قبل البداية»

مع رفع مشروط لعقوبات «قانون قيصر» عن سوريا، سادت موجة من التفاؤل المفرط في الأوساط الاقتصادية والشعبية، لكن القراءة المتعمقة للمشهد تقتضي الخروج من دائرة التبسيط المخل؛ فالشروط الأميركية المرفقة بهذا الرفع -والمتمثلة بوضوح في تكليف الحكومة السورية بمهمة استئصال الجهاديين الأجانب، ومحاربة تنظيم «داعش»، وتشكيل حكومة تشاركية تضمن حقوق الأقليات وتمثيلهم- تضع الاقتصاد السوري أمام اختبار «الاستحقاق» وليس أمام بوابة «الانفراج الفوري». إن الاعتقاد السائد بأن مجرد توقيع قرار رفع العقوبات سيفتح الباب أمام تدفق الاستثمارات الأجنبية هو اعتقاد يجانبه الصواب الاقتصادي. فالعقوبات، على الرغم من قسوتها، فلم تكن العائق الوحيد بل كانت الغطاء الذي يخفي تحته بنية اقتصادية متهالكة وغير جاذبة. إن «رأس المال ذكي»، وهذه القاعدة الذهبية تعني أن المستثمر لا يبحث فقط عن «غياب العقوبات»، بل يبحث عن «حضور الدولة» وبيئة عمل شفافه وأمنه و واضحة.

وهنا تصطدم الآمال بلغة الأرقام القاسية؛ فكيف يمكن جذب استثمارات كبرى في سوق تجاوزت فيه معدلات الفقر حاجز الـ 80%؟ هذا الرقم المرعب يعني أن القوة الشرائية شبه معدومة، خاصة وأن الدخول الحقيقية لا تزال منخفضة جداً ولا تكفي لتأمين الأساسيات، فما بالك باستهلاك منتجات استثمارية جديدة. كما أن المستثمر يبحث عن بيئة قانونية شفافة، وهو ما يغيب تماماً في ظل هيمنة اقتصاد الظل والقطاع غير المسجل الذي بات يشكل ما لا يقل عن 50% من حجم الاقتصاد، ما يعني غياب الشفافية وضياع الموارد الضريبية وسيادة منطق «اقتصاد الكاش» غير الخاضع للرقابة. وتبرز المعضلة الكبرى في حجم الفجوة الهائلة بين الواقع والمأمول؛ فالبيئة الاستثمارية في سوريا اليوم تفتقد لأبسط مقومات الجذب. فالاستقرار الأمني والسياسي لا يزال هشاً، والخلافات الداخلية الحادة والمستمرة مع مكونات أساسية في السويداء، والساحل، ومناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وغيرها من المناطق، تخلق بيئة طاردة لأي استثمار طويل الأمد. ولردم هذه الهوة، تشير التقديرات الاقتصادية إلى أن سوريا بحاجة ماسة إلى تدفقات استثمارية إنتاجية سنوية لا تقل عن 7 مليارات دولار، بالتوازي مع العمل على رفع كفاءة التشغيل لتحقيق معدل نمو في الإنتاجية لا يقل عن 4%. هذه الأرقام هي الحد الأدنى المطلوب لنتمكن من تشكيل ناتج محلي إجمالي يقارب 60 مليار دولار بعد 10 سنوات، وهو الرقم الذي يمكن اعتباره عتبة الأمان الاقتصادي وبداية التعافي.

علاوة على ذلك، يصطدم أي مشروع للنهوض الاقتصادي بواقع البنية التحتية المادية والتكنولوجية المدمرة. نحن لا نتحدث فقط عن الطرق والجسور والكهرباء، بل عن البنية الرقمية والشبكية التي يقوم عليها الاقتصاد الحديث. يضاف إلى ذلك فراغ تشريعي مخيف؛ فسوريا بحاجة إلى نسف منظومة القوانين القديمة واستبدالها بتشريعات عصرية تضمن الشفافية، وتحارب الفساد المستشري، وتحمي حقوق الملكية، وتضمن خروجاً آمناً للأرباح. وفي الشق الاجتماعي-الاقتصادي، تبرز مأساة المخيمات واللاجئين كقنبلة موقوتة. لا يمكن بناء اقتصاد سليم بينما ملايين من القوى العاملة المحتملة تعيش في مخيمات تفتقر للحد الأدنى من الحياة الكريمة. إن حل مشكلة اللاجئين وإعادتهم ودمجهم ليس ملفاً إنسانياً فحسب، بل هو ضرورة اقتصادية قصوى لتحريك عجلة الإنتاج والطلب المحلي. أما القطاع المالي، فهو «الرجل المريض» في الاقتصاد السوري. وعلى الرغم من الثبات النسبي الظاهري، فإن سعر الصرف ما زال منخفضاً عند مستويات تقارب 12,000 ليرة سورية للدولار، وهو استقرار هش ووهمي يعتمد بشكل رئيسي على «أكسجين» التحويلات الخارجية من المغتربين، وليس على قوة الاقتصاد الحقيقي. هذا الاعتماد المفرط على التحويلات يكشف عن خلل بنيوي يتمثل في ضعف شديد في القطاعات الإنتاجية (الزراعي والصناعي والخدمي)، حيث لا يوجد إنتاج حقيقي يدعم الاستقرار المالي والاقتصادي أو يعزز قيمة العملة الوطنية بشكل مستدام. لذا، فإن إعادة تأهيل المصارف، وتمكين البنك المركزي من استعادة أدوات سياسته النقدية، وفك عزلته عن النظام المالي العالمي، هي خطوات لا تقل أهمية عن إعادة الإعمار العمراني. والأهم من كل ما سبق، هو «رأس المال البشري». لقد تعرضت سوريا لنزيفٍ حادٍ في كفاءاتها وعقولها وخبراتها الفنية والحرفية. إن إعادة تأهيل الإنسان السوري، تعليمياً ومهنياً ونفسياً، هو المحرك الأساسي لأي نهضة، ودونه ستتحول أي أموال قادمة إلى مجرد استهلاك لا يخلق تنمية مستدامة. خلاصة القول، إن الاقتصاد السوري اليوم ليس مجرد اقتصاد متعثر، بل هو اقتصاد «منهك ومنكوب» يعاني تشوهات هيكلية وجوهرية عميقة تؤكدها المؤشرات الرقمية المفزعة. إن الحاجة مُلحّة لتحولات جذرية في العقد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، تتجاوز مجرد ترميم ما تهدم. لذلك، يجب أن نعي جيداً أن إلغاء عقوبات «قيصر» المشروط، لا يعني أننا وصلنا إلى خط النهاية، ولا حتى أننا بدأنا السباق؛ إنه ببساطة يعيدنا إلى «نقطة ما قبل البداية»، حيث تبدأ المعركة الحقيقية لبناء دولة ومؤسسات واقتصاد من الصفر. تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.


هذا المحتوى مقدم من منصة CNN الاقتصادية

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من منصة CNN الاقتصادية

منذ 11 ساعة
منذ ساعة
منذ 10 ساعات
منذ 9 ساعات
منذ 9 ساعات
منذ ساعة
قناة CNBC عربية منذ 11 ساعة
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 9 ساعات
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 12 ساعة
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 23 ساعة
قناة CNBC عربية منذ 8 ساعات
صحيفة الاقتصادية منذ 12 ساعة
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ ساعة
قناة CNBC عربية منذ 16 ساعة