تعيش القارة الإفريقية اليوم واحدة من أكثر مراحلها اضطرابا وخطورة مع انتشار موجة الانقلابات العسكرية وتمدد التنظيمات الإرهابية وسيطرتها على مساحات شاسعة من القارة السمراء، بالإضافة إلى الأزمات الحدودية، وتحولها ساحة صراع نفوذ بين الدول الغربية وروسيا والصين.
منذ عام 2020، شهدت 9 دول في إفريقيا انقلابات عسكرية. كان آخرها محاولة الانقلاب الفاشلة في بنين خلال الأيام الماضية، والتي جاءت بعد أسبوع من انقلاب غينيا بيساو.
موجة الانقلابات يرى الباحث في الشؤون الإفريقية محمود أبو بكر، أن موجة الانقلابات العسكرية عادت في القارة الإفريقية، بعد سنوات من تراجعها النسبي، بسبب ضعف البنى الاقتصادية وانعدام فرص العمل للشباب وانتشار الفساد الإداري والمالي، وخصوصا فيما يتعلق منها بمجالات الاستثمار الأجنبي، واحتكار الثروة والسلطة من قبل الأوليغارشيات (السياسية - العسكرية - القبلية أو العائلية).
وأضاف أبو بكر في حديثه لمنصة "المشهد" أن هذا كله يحدث في ظل غياب التمثيل السياسي الشرعي في معظم الدول الإفريقية أدى إلى تمردات متكررة من قبل بعض النخب العسكرية، خصوصا الرتب الصغيرة في الجيش التي تعهدت بالقضاء على الفساد وكسر احتكار السلطة والثروة وإنهاء التعاقدات والمعاهدات غير المنصفة مع الغرب".
من جانبها، تعتقد المحللة في شركة الاستشارات "كونترول ريسكس غروب" بيفرلي أوشينغ، أن موجة الانقلابات الأخيرة في إفريقيا تعكس تفاقم المظالم الاجتماعية والاقتصادية، وضعف المؤسسات، والإحباط من تعامل الحكومات المدنية مع الأزمات الأمنية.
وقالت أوشينغ: "في العديد من دول غرب إفريقيا، حيث لا تزال الجيوش منخرطة بعمق في السياسة اليومية، غالباً ما تدفع الأزمات مثل التمردات والمظالم الاجتماعية والاقتصادية المستمرة الجنود إلى التدخل عندما يعتقدون أن القادة المدنيين يفشلون في الاستجابة بفعالية".
وقال مدير مركز دراسات إفريقيا في المغرب عبد الفتاح الفاتحي، إنه "لا يزال عدد من الدول الإفريقية رهينة الحزب السياسي الواحد، وترفض الديكتاتورية أي محاولات لفرض التعددية الحزبية والسياسية".
وأشار الفاتحي في حديثه لـ"المشهد" إلى أن تزايد التهديدات الأمنية داخليا وإقليميا فضلا عن عدم الاقتناع باستقرار الوضع الاقتصادي والاجتماعي على مستوى القارة الإفريقية يجعل القيادات التقليدية تسود بداع أن الجيل الجديد لا يمكنه مقاومة جسامة هذه التحديات والإكراهات الداخلية والخارجية.
واستولى القادة العسكريون على السلطة بالقوة في مالي في عامي 2020 و2021، وفي بوركينا فاسو في عام 2022، وفي النيجر في عام 2023. وفي عام 2023، أطاح جنود في دولة الغابون الغنية بالنفط، الواقعة في وسط إفريقيا، بالرئيس علي بونغو، الذي حكم البلاد لفترة طويلة، بعد وقت قصير من إعلان فوزه في الانتخابات.
الأمر لا يقتصر على غرب إفريقيا. ففي أكتوبر، استولى قادة عسكريون على السلطة في مدغشقر عقب احتجاجات قادها الشباب مطالبين باستقالة الرئيس أندري راجولينا.
وفي السودان، قام الجيش بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان بانقلاب في أكتوبر 2021، وأطاح بعمر البشير الذي حكم لمدة 26 عاماً.
تمدد الإرهاب تتزامن هذه الانقلابات العسكرية مع تمدد التنظيمات الإرهابية، فقد أصبحت منطقة الساحل الشاسعة في غرب إفريقيا المكان الأكثر دموية في العالم من حيث نشاط الجماعات المتطرفة، مع مقتل آلاف الأشخاص. وتحولت الحكومات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر من التحالف مع الغرب إلى روسيا طلبا للمساعدة في قتال المقاتلين المرتبطين بتنظيم "القاعدة" أو تنظيم "داعش".
وازدادت الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل الإفريقي بشكل كبير خلال 6 سنوات، من 1900 هجوم عام 2019 تركزت أساسا على الحدود بين مالي وبوركينا فاسو، إلى أكثر من 5500 هجوم عام 2024، و3800 هذا العام حتى 10 أكتوبر، وفق تحليل أجرته وكالة فرانس برس استنادا إلى بيانات منظمة "أكليد" لرصد النزاعات.
وقد أدت أعمال العنف إلى مقتل نحو 76900 شخص، وصارت تطال بلدان خليج غينيا.
وأكد أبو بكر أن انتشار الحركات المتطرفة يرتبط أيضا بالأوضاع السياسية والاقتصادية، إذ تستثمر الحركات المتطرفة الأزمات الاقتصادية والمالية والسياسية للنفاذ نحو الفئات الشبابية وتجنيدها.
وقال: "بل تطور الأمر إلى التأثير على الزعامات القبلية المؤثرة، وتأطيرها، خصوصا وأن هذه الدول تعيش في بيئة دينية محافظة، مما يسهل انتشار الخطاب الديني المبشر بالجنة، بالإضافة إلى أن نسب التعليم ونوعيته يسهم في إخراج أجيال بوعي متواضع".
وأشار أبو بكر إلى ضعف العامل الأمني لوجستيا وفكريا، كمؤثر مركزي على انتشار الجماعات المتطرفة وإيجاده لأرضية شعبية، خصوصا وأن النظم التي حكمت البلاد لأكثر من 6 عقود أو أكثر لم تعمل في نشر خطاب وطني فاعل وجاذب.
منذ أسابيع، يحاصر إرهابيون تابعون لـ"جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" المرتبطة بتنظيم "القاعدة" باماكو عاصمة مالي، مما يمنع دخول إمدادات الوقود إلى البلاد، ما يسبب أزمة للمجلس العسكري الحاكم.
كما وسّعت الجماعة الإرهابية عملياتها في غرب مالي، بينما تتقدم أيضا جنوبا باتجاه ساحل العاج.
وتخوض السلطات في نيجيريا حربا منذ 16 عاما ضد جماعة "بوكو حرام" وتنظيم "داعش" في غرب إفريقيا. وأسفر النزاع عن مقتل أكثر من 40 ألف شخص ونزوح نحو مليونين في شمال شرق نيجيريا.
وخلال الأيام الأخيرة، زادت عمليات خطف وقتل التلاميذ والمسيحيين في نيجيريا.
وأكد الفاتحي أن ضعف القيادات السياسية لانعدام كاريزميتها السياسية التاريخية، فوّت عليها التعبئة المجتمعية لمواجهة التحديات الأمنية والاجتماعية والثقافية.
وقال: "بل إنها فقدت الثقة الشعبية لحجم الفساد المستشري والتواطؤ مع القوى الأجنبية (المستعمر التاريخي) لنهب مقدرات الدول. الأمر الذي يعمق الإحساس بالإحباط واليأس المجتمعي، وهو ما يدفع إلى التحالف مع الجماعات المتطرفة ضد المجتمع والسلطة".
وأشار الفاتحي إلى أنه "نتيجة لواقع سياسي فاسد، أصبحت فئات مجتمعية إفريقية عدة فاقدة للثقة في مؤسسات الدولة وتدين بالولاء للجماعات المتطرفة، هذا هو جوهر التحدي الذي يعقد من محاولات القضاء على الجماعات الإرهابية، بل إن الواقع الإفريقي اليوم يوفر بيئة ملائمة لزيادة نفوذ الفكر المتطرف".
صراعات حدودية في الأسابيع الأخيرة، زار عدد من كبار المسؤولين الأميركيين عواصم إفريقية التي تحكمها أنظمة عسكرية، لعرض "الحل الأميركي" لمكافحة "الإرهاب" وتعزيز الاستثمار الخاص الأميركي.
جاءت هذه التحركات بعد الانتقادات المتكررة للمجتمع الدولي بسبب تأخره في التدخل توسع هذه التنظيمات المتطرفة على غرار ما حدث في سوريا والعراق لمواجهة تنظيم "داعش".
وقال أبو بكر "ما يسمى المجتمع الدولي في الاغلب تسيطر عليه القوى العظمى، التي تحركها مصالحها الحيوية، وليس القيم الانسانية، وباعتبار أن القارة الإفريقية خصوصا دول الساحل الإفريقي لا تتوفر على إمكانات مادية مباشرة كالطاقة أو ضعف تأثيرها على المحركات الجيو سياسية والإستراتيجية قياسا بمصالح القوى العظمى فهي خارج دائرة اهتمام العواصم الغربية الكبرى".
إلى جانب هذه الأزمات تواجه بعض المناطق في القارة الإفريقية مثل ما يحدث في الكونغو الديمقراطية ورواند، رغم توقيعهم اتفاق سلام بوساطة أميركية في 4 ديسمبر في واشنطن.
وخاض مقاتلو حركة إم 23 المسلّحة المناهضة للحكومة الجمعة معارك في إقليم جنوب كيفو في مواجهة الجيش الكونغولي الذي يؤازره آلاف الجنود البورونديين المنتشرين لمساندته.
يسعى الطرفان للسيطرة على بلدة كامانيولا الواقعة عند الحدود بين الكونغو الديمقراطية ورواندا وبوروندي. وتسيطر حركة إم 23 حاليا على البلدة.
ويرى أبو بكر أن قضية الحدود هي مسألة مفتعلة من قبل بعض الأنظمة الإفريقية، لصرف الأنظار عن مشكلاتها الداخلية المتعلقة بالاستحقاقات السياسية والتحديات الاقتصادية والمالية، لأن قضية الحدود محسومة وفقا لميثاق منظمة الوحدة الإفريقية (الاتحاد الإفريقي لاحقا).
ويتفق الفاتحي مع هذا الرأي، وقال: "النزاعات الحدودية باتت توظف اليوم لتعزيز قبضة الأنظمة على الدول الإفريقية بداعي مواجهة الخطر الخارجي وتوفير الموارد اللازمة لحماية السيادة الوطنية".
هذا المحتوى مقدم من قناة المشهد





