خلال ربع القرن الماضي، اشتعلت المنطقة العربية بحروب متزامنة ومعقدة تداخل فيها المطلب الأهلي ببعد النفوذ الدولي، مما عقد طبيعة الصراع وخلف تركة ثقيلة في جردة النتائج اليومية والمستقبل المجهول.
LIVE An error occurred. Please try again later
Tap to unmute Learn more ولأن للحرب قناعاتها التي تفرضها بسطوة من نار توشم بها خرائط البلدان، وتترك آثار آلياتها في وجوه الناس وتراب الشواطئ والحدود، شهدت كل من سوريا واليمن والسودان تداعيات دامية أدخلتها نفقاً مظلماً لا يعلم لمداه منتهى نتيجة لما عرف حينها بأحداث "الربيع العربي" عام 2011 وما أعقب "أحلام التغيير" من كوابيس الدماء والدمار، بعدما تحولت جموع المتدافعين من مشروع "إسقاط النظام" إلى صراع أهلي راح ينهش جسد الدولة الهشة واتخذ أبعاداً دولية ضمن سباق النفوذ الجيوسياسي، لا تزال اعتمالاته ماثلة باستثناء حال التعافي التي تشهدها سوريا اليوم بعيد سقوط نظام الأسد في ديسمبر (كانون الأول) الماضي الذي طوى عهد واحدة من أعنف الحروب وأشدها وحشية، لتضيف مأساة غزة قبل عامين، صوراً أخرى إلى مشهد الواقع العربي المعقد بروزنامة الأزمات والأولويات وترفع منسوب التوقعات باتساع الصراع العربي- الإسرائيلي.
وباستثناء غزة، تشابهت في هذه الدول عوامل الصراع كما تشابهت مآلاته التي بدأت بدعاوى إسقاط النظام لتحل آلة الحرب الخشنة مكان المطالب السلمية الناعمة، فارضة لنفسها واقعاً مغايراً أخذ بالتطور والاتساع وكان التعصب الطائفي والفرز اللاوطني من أبرز مؤججات أواره، ناهيك عن عوامل أخرى كالتدخل الخارجي الذي تعامل مع هذه الملفات من منطلق المصلحة الدولية من دون فرض مقاربات موضوعية توقف نزف الدماء وتضع حداً لهدر المقدرات.
ولأن "السلام أصعب من الحرب"، أدت هذه المعارك، وفقاً لمقتضيات السياسة ولاعبيها، إلى تأزم الواقع العربي وتعقيد ومراكمة الإشكالات في فاتورة مستقبل صراع النفوذ، فمصالح اللاعبين الدوليين التي تتقاطع في ملف ما، تختلف في آخر، لينسحب الأمر على باقي القضايا، بالتالي تعقيد الرؤيا المشتركة للأزمات وترحيلها.
ثابت ومشترك في اليمن وسوريا كما هي الحال في لبنان سابقاً وقبله العراق، تحولت الثورة إلى حروب متعددة الأوجه، متباينة الأهداف، وعلى غير ما كان متوقعاً أخذ الطابع الطائفي والتحشيد العرقي يضفي بصبغته وجه الصراع وبث في روافده وقود التعصب المتطرف، كشفت عن أهواله للعالم تلك الصور الموثقة للمقابر الجماعية والمعتقلات الرهيبة، فيما دخل السودان مرحلة الانهيار مع عودة الحرب الأهلية منتصف أبريل (نيسان) عام 2023 واقتتال فصيلي القوات المسلحة ممثلة بالجيش الرسمي وقوات "الدعم السريع"، الموازية له، كنتيجة لحال العداء الدفين الذي بينت جزءاً منه تلك الصور المريعة الواردة أخيراً من مدينة الفاشر في ولاية دارفور، كاشفة عن مستوى الانتقام الذي كان المدنيون في مقدمة ضحاياه وبلغت حد تعرضهم لتصفيات جماعية روعت العالم.
وتلتقي الحرب اليمنية والسورية في مشتركات عدة من بينها التأثر بعاصفة "الربيع العربي" ودعوات إسقاط منظومة الحكم التي ضاق بها الناس ذرعاً عقب عقود في السلطة، وانزلاق الثورات السلمية الى قتال دامٍ بعدما واجهت آلة القمع وكانت التدخلات الخارجية وفق البعد الجيوسياسي والنفوذ السياسي لكل طرف من أبرز معززات استمراره بحسب ظروف كل بلد وطبيعته.
وعلى رغم أن علاقة الطوائف والمذاهب ذابت في وعاء التعايش التاريخي المشترك في تلك البلدان، فإن التدخلات الدولية كما هي الحال في إيران، شكلت العامل المشترك الثابت في صميم النفوذ المؤجج عبر إنشاء ورعاية أذرع متقدمة تابعة لها في كل من اليمن وسوريا كشفت الأحداث عن تبعيتها المطلقة خدمة لنظام طهران وفق مستوى مرسوم لكل مرحلة.
وفي اليمن مثل انقلاب الحوثي التجلي الأكبر لحال انهيار الدولة المتتابع الذي بدأ باحتجاجات أطاحت بعلي عبدالله صالح (1942 2017) وفق "المبادرة الخليجية" في الـ23 من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2011، واضعة خريطة طريق لمرحلة انتقالية يقودها نائبه، عبد ربه منصور هادي الذي تولى السلطة في فبراير (شباط) عام 2012، كأول رئيس جنوبي يحكم البلاد.
وفي لحظة انشغال القوى السياسية اليمنية بالصراع على تركة الزعيم الذي حكم لأطول فترة في تاريخ البلاد (33 عاماً)، كانت الميليشيات الآتية من الهضبة الشمالية وعمقها الفكري والبشري التاريخي في محافظة صعدة (شمال) تحث الخطى للتقدم والانتشار بعناصر انتحارية بتنسيق مسبق مع فئات سلالية موالية لها في المجتمع بشرت بعودة "آل بيت النبي" للحكم و "تحرير القدس"، وفقاً لمبدأ "الولاية والاصطفاء" و"الحق الإلهي في الحكم"، سعياً إلى "السيطرة على البلاد وتكريس التجربة الإيرانية في اليمن"، وفقاً للرئيس هادي الذي واجه الانقلاب الحوثي بلا حيلة وبلا نفوذ في القوات المسلحة.
فالقيادات التاريخية للبلاد سياسية وقبلية تحكم قبضتها على مفاصل الجيش والسلطة، فيما وجهت الاتهامات للرئيس السابق صالح بدعم الحوثيين وتسليمهم معسكرات "الحرس الجمهوري"، ذراعه العسكرية الأقوى طوال فترة حكمه، وهو اتهام لم يكُن صالح يستنكف تفنيده أو نفيه.
وعام 2012 حذر هادي من "مخطط إيراني للسيطرة على مضيق باب المندب" بواسطة ميليشيات الحوثي ويتردد أنه طرح مخاوفه على عدد من القادة العرب والرئيس الأميركي باراك أوباما وقال خلال لقاء متلفز "من يسيطر على باب المندب لا يحتاج إلى برنامج نووي"، في إشارة إلى المساعي الإيرانية.
ووفق واقع الحال سعى الجنرال هادي المتخرج في أكاديمية "ساندهيرست" العسكرية الملكية البريطانية عام 1966، إلى إيجاد إسناد دولي لبلاده أمام المساعي الحوثية الحثيثة للتوسع كذراع إيرانية مغروسة في المنطقة باتت تنشط عسكرياً بمحاذاة الحدود السعودية بعدما وجد نفسه على رأس دولة شبه مفلسة يتهددها الانقسام والتفكك، وجيش لا يدين له بالولاء، فعلي صالح و"الإخوان المسلمون"، الحلفاء السابقون وأعداء اليوم، يتقاسمون النفوذ التاريخي في البلاد ولا ينصاعون إلا بما يخدم مصالحهم.
وكانت تحذيراته تتواتر مع كل شحنة أسلحة تضبطها قوات خفر السواحل في طريقها للحوثيين، إضافة إلى ما ذكر حينها عن وثائق وجدت في المستشفى الإيراني بصنعاء تكشف عن مستور مخطط السيطرة الذي تحقق لاحقاً بعد أن انشغلت القوى السياسية بصراعات الإزاحة الأخيرة وسعي كل منها إلى استمالة القوة الحوثية الصاعدة لمصلحتها، ناهيك عن المشكلات التاريخية المتراكمة عبر عقود من الأزمات وفي مقدمتها جنوب البلاد الذي بات يرفع مطالب "استعادة الدولة" التي دخلت في وحدة مع الشمال عام 1990.
ودفع التدخل الإيراني الداعم للانقلاب الحوثي في سبتمبر (أيلول) عام 2014 إلى إشعال فتيل الحرب عندما وجد اليمنيون أنفسهم في مواجهة حتمية مع جماعة أصولية تنتهج كل وسيلة لتكريس فرض نهجها الطائفي الطاغي بأدوات العنف والترغيب، لتنطلق عمليات عسكرية جوية من ائتلاف مكون من دول عربية عدو عرف بـ"التحالف العربي" بقيادة السعودية استجابة لطلب من هادي (حكم ما بين أعوام 2012 و2022) بدأت بتنفيذ ضربات جوية على الحوثيين في الـ25 من مارس (آذار) 2015 تحت مسمى عملية "عاصفة الحزم" وتساند "المقاومة الشعبية" التي بدأت تتشكل للتو من جموع الشعب اليمني الذين واجهوا الحوثيين بسلاحهم الشخصي البسيط ومثلوا النواة الأولى لإنشاء فصائل عسكرية موالية للحكومة الشرعية.
وعقب أكثر من 11 عاماً من الاقتتال استعادت الشرعية أجزاء واسعة من المناطق بما فيها عدن الساحلية التي اتخذتها عاصمة موقتة للبلاد لحين استعادة صنعاء التي يحكم الحوثيون قبضتهم عليها ومعها عدد من المحافظات الشمالية.
وبموازاة الصراع الداخلي، استهدفت الميليشيات الحوثية عبر الصواريخ والطائرات المسيّرة منشآت استراتيجية في السعودية والإمارات، بما فيها مطارات وحقول نفط وأهداف مدنية.
و في المجمل يواجه اليمن مرحلة معقدة في ظل سلسلة من التحولات التي فرضها الانقسام السياسي والجغرافي والاقتصادي بين سلطتي الحكومة الشرعية في العاصمة الموقتة عدن والحوثي في العاصمة صنعاء، وحاول الأخير تكريس هيمنته كسلطة أمر واقع وتعزيز مفهوم الولاية الدينية وفق نهج الاصطفاء عبر سلسلة من الإجراءات من بينها إقامة اقتصاد موازٍ والسيطرة على التعليم والإعلام والقضاء من خلال استمرار تبعيته لطهران كأداة بيدها في معادلة الردع الإقليمي، فيما تحاول الشرعية استعادة ثقة الشعب والدعم الإقليمي والدولي.
ولعل أكثر الإشكالات التي تتهدد استقرار البلاد إقحامها في معادلة الحرب التي شهدتها غزة من خلال السلوك الحوثي في البحر الأحمر بشن غارات تستهدف سفن التجارة الدولية وبعض الصواريخ غير المؤثرة التي تطلق من الأراضي اليمنية وتتبناها الجماعة "نصرة لفلسطين"، فيما يراها مراقبون مناورات إيرانية ضد تل أبيب وتعريض البلاد لضربات انتقامية إسرائيلية عملت على إخراج مطار صنعاء وميناء الحديدة من الخدمة ودمرت عدداً من المواقع والمنشآت الحيوية المهمة.
التركة الأثقل يلتقي اليمن وسوريا في إشكال تركة الصراع ونتائجه التي فرضت واقعاً جديداً له ما بعده وفي مقدمها الفصائل المسلحة، ولعل أبرز التحديات أمام مهمة اليمنيين والسوريين استعادة دولتيهما، حال الانقسام الحاد التي أفرزتها دورات العنف وباتت تهدد بمزيد من التشظي والانقسام بعد أن أنتجت المقاومة للمشروع الإيراني في البلدين فصائل مسلحة أضحى كل واحد منها يحكم قبضته على المنطقة التي سيطر عليها كما في اليمن الذي على رغم التقاء القوى الفاعلة على مبدأ العداء المشترك للحوثي، فإنها لا تزال تتصارع بينياً استناداً إلى خلفياتها السياسية التي لم تفلح فكرة السلطة الائتلافية ممثلة بمجلس القيادة الرئاسي برئاسة الدكتور رشاد العليمي في احتوائه. والحال ذاتها في سوريا التي مع زوال النظام "الأسدي"، بقي مستقبل الفصائل المسلحة كابوساً مؤرقاً على مستقبل البلاد وسلمها الأهلي ونهجها السياسي الوطني حذر منه قادة وخبراء سوريين على نحو متواتر، خصوصاً القوى التي يراد لها أن تحل محل مؤسسة الجيش النظامي السابق.
ومنذ عام 2022 يعيش اليمن حال لا حرب ولا سلم بفعل تهدئة أممية وتفاهمات دولية غير معلنة، أنتجت سلسلة طويلة من التعقيدات كانت "المأساة الإنسانية الأسوأ على مستوى العالم" وفقاً لتصنيف الأمم المتحدة العنوان الأبرز لكارثة الصراع. وحتى نهاية عام 2021، بلغ عدد الضحايا نحو 377 ألفاً، بحسب تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الذي قال إن طفلاً يمنياً دون سن الخامسة يموت كل تسع دقائق، فيما لا يزال نحو 10 ملايين طفل بحاجة ماسة إلى المساعدات الإنسانية. ونزح نحو 4.5 مليون شخص، أي ما يعادل 14 في المئة من السكان وفقاً لتقديرات حديثة من الأمم المتحدة و"يونيسيف".
لكن الكاتب في "اندبندنت عربية" حسن فحص رأى أن ضعف إيران الفاعل الأكبر في تأجيج الصراع، وسعيها إلى الاستثمار في الموقف السعودي الداعم للتفاوض والتوصل إلى حلول واضحة في الأزمة النووية، قد يدفعان إلى تسوية.
وبرر ذلك بأن "القيادة الإيرانية باتت تدرك بوضوح أن أي اتفاق أو تفاهم بينها وواشنطن لا يأخذ في الاعتبار المصالح السعودية في الإقليم، سيكون صعباً ولن يساعد في إعادة دمج إيران في محيطها أو يسهم في تعزيز الثقة بها وبطموحاتها في الإقليم، كما خلال عهد أوباما الذي ترك لها الباب مفتوحاً لتوسيع نفوذها ودورها على حساب مصالح دول المنطقة".
صراع النفوذ الأخير ولم يكُن السودان بعيداً من حال الصراع وتقاسم النفوذ العسكري والسياسي العربي، كواقع القوى المتسيّدة التي ترفض مشاركة الآخر ثم تخلق من داخلها خصماً جديداً للتفرد عقب أعوام من المداراة السياسية والتقاسم بين رأسي القوات المسلحة التي يقودها كل من رئيس مجلس السيادة الانتقالي عبدالفتاح البرهان، وقوات "الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي" انتهت بالصدام الدامي الذي لم تفلح معه محاولات الترقيع للتوفيق بين القوتين المتوازيتين داخل الدولة بدءاً من إزاحة الرئيس السابق عمر البشير وتركته التي كوّنها خلال فترة حكمه، مروراً بتشكيل مجلس السيادة الانتقالي وانقلاب الجنرالين المتشاكسين على رئيس الوزراء التكنوقراطي عبدالله حمدوك الذي بدأ السودان يستعيد شيئاً من أنفاسه معه.
وبدأ الطرفان مساعي التفرد المطلق مع اتهامات متبادلة بالضلوع في شبكات مصالح شخصية بمعزل عن مصلحة الشعب السوداني ومصير مستقبله، ليندلع الاقتتال الأهلي في الـ15 من أبريل (نيسان) عام 2023، معلناً عن واحدة من أعنف الحروب في تاريخ البلاد بدءاً من العاصمة الخرطوم ثم إلى باقي ولايات الجزيرة وسنار وشمال النيل الأبيض وجنوب النيل الأزرق، ثم تراجع نحو ولايات شمال كردفان وغربها وجنوبها وإقليم دارفور، بدأ بهجمات لقوات "الدعم السريع" على مواقع حكومية رئيسة في العاصمة ورد قوات الجيش الرسمي لتدور معارك عنيفة في شوارع الخرطوم في الأسبوع الأول الذي تبادل فيه الطرفان الاتهامات بالخيانة وتلقي دعم خارجي، بالتزامن مع سباقهما للسيطرة على كثير من المواقع الحكومية الرئيسة بما فيها القصر الرئاسي ومطار الخرطوم الدولي والتلفزيون الرسمي ومواقع أخرى، ولكن واقع الحال يؤكد أن المعركة ظلت تراوح أسلوب الشد والجذب من دون رجوح كفة طرف على الآخر، مما ينذر بتفاقم الصراع لأمد أطول.
وداخل مسرح العمليات انقسم ميدان النفوذ، فالغرب دان لـ"حميدتي" والشرق سيطر عليه الجيش وتفوق الأخير عقب استعادة سيطرته على العاصمة الخرطوم وهو التقاسم الذي يعقد المشهد السياسي والمواقف الدولية واقتراحات الحل السياسي.
وفي التاسع من سبتمبر (أيلول) عام 2024، أفادت منظمة "هيومن رايتس ووتش" بأن قوات "الدعم السريع" حصلت على أسلحة ومعدات عسكرية متقدمة من صنع أجنبي.
وادعى مسؤولون من الولايات المتحدة والدول الأوروبية والأفريقية بأن الإمارات كانت تدعم قوات "الدعم السريع" في الحرب، فيما تقول أبو ظبي أن عمليتها كانت إنسانية بحتة، وبالتزامن تمدد القتال الذي غلبت عليه نزعة الانتقام الشرس من دون الاكتراث بسلامة السكان المدنيين من الخرطوم إلى ولايات الجزيرة وسنار وشمال النيل الأبيض وجنوب النيل الأزرق، ثم تراجع نحو ولايات شمال كردفان وغربها وجنوبها وإقليم دارفور مخلفاً أرقاماً مخيفة في فاتورة الحال الإنساني الآخذ في التعقيد مع فشل الأمم.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من اندبندنت عربية
