«جسر موسى».. ممر يعيد تشكيل اقتصاد البحر الأحمر

يواصل مشروع «جسر موسى» ترسيخ موقعه كمحرك رئيسي في إعادة تشكيل اقتصاد البحر الأحمر. فالممر الجديد الذي يصل بين رأس حميد في السعودية وسيناء في مصر يتجاوز كونه مشروع بنية تحتية تقليدية، ليعكس توجهاً إقليمياً أوسع لإعادة بناء شبكات التجارة بين آسيا وإفريقيا والمتوسط.

ويكتسب المشروع، الذي تُقدّر تكلفته بأربعة مليارات دولار ويمتد 32 كيلومتراً فوق مضيق تيران، أهمية متزايدة في سياق ترتفع فيه قيمة الممرات البرية نتيجة اضطرابات البحر الأحمر وارتفاع مخاطر الشحن البحري.

ومن الناحية الجغرافية، يمنح الجسر السعودية منفذاً برياً مباشراً نحو الموانئ المصرية على المتوسط، ويكوّن ممراً يمكن أن يدعم شبكات السكك الحديدية، ويخدم ملايين المسافرين والحجاج، فضلاً عن تقليل الاعتماد على الملاحة في واحد من أكثر أجزاء البحر الأحمر حساسية.

السوق الموازية تتوسّع.. هل تزداد شهية المستثمرين في البورصة السعودية؟

إعادة ضبط معادلات النقل

شهد قطاع الشحن الدولي خلال عامي 2024 و2025 اضطرابات حادة نتيجة التوترات على خطوط الملاحة في البحر الأحمر، ما أدى إلى زيادة كلفة النقل التي سجلت ارتفاعات قياسية في الربع الأول من 2025.

وتُظهر تقديرات «دي بي وورلد» (DP World) أن استقرار حركة السفن في المنطقة يمكن أن يخفض أسعار الشحن البحري بما يصل إلى 20 25%، وهو ما يشير إلى مستوى التأثير الذي تمارسه جغرافيات المخاطر على اقتصاد عالمي يعتمد بشكل كبير على سلاسل الإمداد الممتدة.

وفي هذا السياق، يقدّم «جسر موسى» بديلاً برياً يُقلّل الزمن والمخاطر ويُعيد توزيع جزء من حركة البضائع بطريقة تحفّز المنافسة بين النقل البحري والربط البري، ما ينعكس مباشرة على كلفة السلع في أسواق الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

لا يقتصر الأثر المحتمل على تخفيض تكاليف النقل، بل يمتد إلى تغيير أنماط حركة البضائع. فالممرات البرية الثابتة تتيح تدفقاً مستقراً وغير خاضع للتقلبات البحرية، وتعزز قدرة الشركات على التخطيط طويل الأجل، وتفتح الباب أمام نماذج توزيع جديدة تعتمد على التوريد السريع و«تجزئة الشحنات» (split logistics)، وهو توجّه بات أساسياً في سلاسل الإمداد الحديثة.

مركز صناعي-لوجستي متكامل

تتجاوز قيمة «جسر موسى» دوره كمسار عبور، إذ يمكن أن يتحول محيطه إلى عنقود صناعي-تجاري يخدم كلاً من الأسواق الخليجية والأفريقية والمتوسطية. وبالنظر إلى خطط السعودية ضمن برامج التنمية الصناعية واللوجستية في «رؤية 2030»، يبرز الجسر كعامل تمكين لربط مناطق صناعية قائمة بمراكز توزيع إقليمية، ما يشجع صناعات التجميع الخفيف، ومراكز التخزين والمعالجة، وسلاسل القيمة المرتبطة بالزراعة والأغذية.

على الجانب المصري، تلتقي هذه الدينامية مع خطط تطوير سيناء وإعادة تموضع موانئ بورسعيد ودمياط كمنافذ رئيسية نحو المتوسط. ويسهم هذا التكامل في إنشاء فضاء اقتصادي جديد يمتد من شمال غرب السعودية إلى الساحل المصري، حيث تتقاطع التجارة البرية مع حركة الموانئ.

ممر أخضر جديد

تشهد صناعة النقل البحري تحوّلاً جوهرياً باتجاه «الممرات الخضراء»، وهي مبادرات تستهدف خفض الانبعاثات وخدمة سفن تعمل بوقود منخفض الكربون. ويعكس هذا التوجه ما رصده تقرير «التنمية العالمية للشحن الأخضر 2024 2025»، حيث يُظهر اتساع دائرة الدول والموانئ التي تتبنى معايير بيئية أكثر صرامة، إلى جانب سرعة استجابة الأسواق للتحول نحو أنماط نقل أكثر كفاءة وأقل تلوثاً.

وفي هذا الإطار، يمكن لـ«جسر موسى» أن يساهم في بناء ممر بري ذي بصمة كربونية منخفضة، خاصة مع دخول السيارات الكهربائية والهيدروجينية إلى أساطيل الشحن البري في الخليج، وربطه بشبكات الطاقة النظيفة التي تطورها مشاريع مثل «نيوم» و«أوكساغون».

الاتجاه العالمي نحو «التصنيع القريب»

في ظل الاضطرابات الجيوسياسية واللوجستية العالمية، برزت استراتيجية «التصنيع القريب» (Nearshoring) كأحد أهم التحولات في الاقتصاد الدولي. ويقوم هذا النهج على إعادة توجيه عمليات الإنتاج والتجميع إلى دول قريبة جغرافياً من الأسواق الرئيسية، بدلاً من الاعتماد على سلاسل توريد طويلة تمتد عبر شرق آسيا.

ومع تزايد المخاطر في الممرات البحرية وارتفاع زمن الوصول إلى المستهلك، أعادت شركات كبرى في أوروبا والولايات المتحدة النظر في مواقعها الإنتاجية، وبدأت بالبحث عن وجهات أقرب وأكثر استقراراً لتقليل تكاليف النقل وتحسين مرونة الإمداد.

ويستجيب «جسر موسى» لهذا المنطق عبر توفير منصة ربط بين الخليج وإفريقيا والبحر المتوسط، ما يسمح بإعادة توزيع بعض خطوط الإنتاج أو التجميع على نطاق إقليمي بدلاً من الاعتماد على ممرات شحن عابرة للقارات تستغرق أسابيع.

هذا الارتباط بين الجسر و«التصنيع القريب» يمنح البلدين، السعودية ومصر، فرصة لجذب استثمارات صناعية تعتمد على تقليص «زمن الوصول إلى السوق» (Time-to-Market)، وهي خاصية باتت ميزة تنافسية حاسمة في الصناعات الإلكترونية والسيارات والأغذية والمستلزمات الاستهلاكية.

تحوّل الأطراف إلى ممرات اقتصادية

يمتلك الجسر أيضاً تأثيراً اجتماعياً-اقتصادياً عميقاً على المدن الصغيرة والمناطق الحدودية حوله. فمناطق مثل رأس حميد أو شرم الشيخ يمكن أن تشهد انتقالاً سريعاً من اقتصاد قائم على السياحة المحدودة إلى اقتصاد لوجستي-تجاري يعتمد على عبور البضائع والمسافرين.

وتؤكد تجارب عالمية مشابهة أن المشاريع الحدودية الكبرى غالباً ما تقود إلى نشوء «مدن خدمات» توفر ورش صيانة، ومراكز شحن، ومناطق حرة، وأسواق عمل جديدة. هذه المكاسب قد تُسهم في معالجة الاختلال التنموي بين المراكز والأطراف، وتوفر دينامية سكانية وتوظيفية تعزز النسيج الاقتصادي المحلي.

تراجع التوتر في البحر الأحمر يصعد بإيرادات قناة السويس 14%

اقتصاد رقمي يعزز البنية المادية للممر

أحد أهم المتغيرات في البنية التحتية الحديثة هو تداخل العالم الرقمي مع المادي. ومع انتشار تقنيات التتبع الفوري، والتحليلات اللوجستية، والذكاء الاصطناعي في إدارة الموانئ، باتت الممرات البرية تعتمد على «أنظمة تشغيل رقمية» تضاهي شبكات النقل نفسها في الأهمية.

ويبرز هذا الاتجاه في تقارير قطاع الموانئ في الشرق الأوسط، والتي تُظهر كيف توظّف الموانئ الإقليمية شبكات الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي لتعزيز الأتمتة وإدارة البيانات على مستوى العمليات.

ومن المتوقع أن يتحول محيط الجسر إلى منصة لوجستية مدعومة ببيانات ضخمة ومراكز قيادة رقمية، مع إمكانية دمج مسارات لكابلات الاتصالات البحرية والبرية التي تجعل البحر الأحمر ممراً للبيانات إلى جانب كونه ممراً للتجارة. ويعزّز هذا الطرح ما أشار إليه تحليل منصة «إكوينيكس» (Equinix) حول تمركز كابلات الاتصالات العابرة للقارات في البحر الأحمر، والذي يبيّن كيف بات هذا الممر البحري نقطة ارتكاز لشبكات البيانات العالمية.

البحر الأحمر كمركز ثالث للتجارة العالمية

عند النظر إلى أنماط التجارة العالمية، يتوزع النشاط التجاري الدولي بين محورين رئيسيين: آسيا-المحيط الهندي، وشمال الأطلسي. لكن التطورات الجارية في محيط البحر الأحمر، من الجسر إلى توسعة الموانئ إلى مسارات السكك الحديدية الجديدة، تمنح المنطقة فرصة للتحول إلى مركز ثالث للتجارة العالمية.

وتبرز تقديرات «البنك الدولي» بأن الممرات التي تربط آسيا وإفريقيا وأوروبا عبر البحر الأحمر تمثل إحدى أسرع مناطق النمو في التجارة العالمية، خاصة مع إعادة تشكيل سلاسل الإمداد بعد أزمات الأعوام الماضية.


هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من إرم بزنس

منذ 32 دقيقة
منذ ساعة
منذ 12 دقيقة
منذ 6 ساعات
منذ 3 ساعات
منذ 45 دقيقة
قناة CNBC عربية منذ 18 ساعة
صحيفة الاقتصادية منذ 20 ساعة
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 5 ساعات
قناة العربية - الأسواق منذ 5 ساعات
فوربس الشرق الأوسط منذ 4 ساعات
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 4 ساعات
منصة CNN الاقتصادية منذ ساعتين
قناة CNBC عربية منذ 10 ساعات