في مواجهة ما تصفه تقارير رسمية بـ«الكلفة البنيوية» للفساد على التنمية والحكامة، تتهيأ الدولة لفتح جبهة جديدة في معركة طويلة ومعقّدة، عنوانها هذه المرة: الذكاء الاصطناعي. فبعيداً عن الأدوات التقليدية في التتبع والزجر، تراهن الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها على التكنولوجيا المتقدمة باعتبارها «سلاحاً استراتيجياً» قادراً على تقليص هوامش التلاعب، وتسريع كشف الاختلالات، وتعزيز ثقة المواطنين في مؤسسات الرقابة.
استراتيجية خماسية برهانها التكنولوجيا
الرهان الجديد ورد بوضوح في الاستراتيجية الخماسية للهيئة (2025 2030)، التي تشكل خارطة طريق لإرساء منظومة وطنية متكاملة للتبليغ عن الفساد، وتكريس ثقافة الإبلاغ، وضمان حماية فعالة للمبلغين ومثيري الانتباه. غير أن اللافت في هذه الوثيقة ليس فقط البعد المؤسساتي والقانوني، بل الانتقال الواضح نحو توظيف الذكاء الاصطناعي كرافعة مركزية في عمل الهيئة.
فوفق الاستراتيجية، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مساعدة، بل مكوناً بنيوياً في مختلف مسارات العمل، من معالجة الشكايات، إلى التحليل الاستباقي للمعطيات، وصولاً إلى دعم القرار وتعزيز الشفافية.
منصة ذكية لدعم القرار وتقليص الآجال
المشروع الأول، والأكثر تقدماً، يتمثل في دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في منظومة عمل الهيئة، عبر إرساء منصة متكاملة قادرة على تحليل المعطيات الضخمة، واستخراج الأنماط غير الظاهرة، ورصد مؤشرات المخاطر المرتبطة بالفساد.
هذه المنصة، بحسب الوثيقة، ستُمكّن من:
إعداد تقارير تحليلية استباقية لدعم القيادة واتخاذ القرار؛
تقليص آجال معالجة الملفات والشكايات؛
رفع جودة الخدمات المقدمة للمرتفقين والشركاء؛
تعزيز الشفافية وتتبع المساطر بشكل أدق.
وبلغة الأرقام، تم إنجاز نحو 20 في المائة من المشروع خلال سنة 2025، على أن ترتفع نسبة التنفيذ إلى 60 في المائة مع نهاية 2026، فيما يُستكمل بشكل تدريجي إلى غاية 2029، ما يعكس طموحاً زمنياً واضحاً، لكنه يطرح في المقابل سؤال الجاهزية التقنية والموارد البشرية.
«NazahaTech»: الابتكار المفتوح في خدمة النزاهة
المشروع الثاني يحمل بعداً تشاركياً أوضح، ويتمثل في إطلاق منصة وطنية للابتكار المفتوح تحت اسم NazahaTech.ma. الفكرة هنا لا تقتصر على العمل من داخل المؤسسة، بل تسعى إلى خلق فضاء رقمي مفتوح يجمع الإدارات، والباحثين، والمقاولات الناشئة، والمجتمع المدني، من أجل تبادل الأفكار وتطوير حلول مبتكرة لمكافحة الفساد.
المنصة، التي يرتقب الشروع في تنفيذها ابتداء من سنة 2027، تهدف إلى:
دعم التعاون بين مختلف الفاعلين في منظومة النزاهة؛
احتضان مبادرات رقمية مبتكرة في مجال الشفافية؛
تحويل محاربة الفساد إلى ورش جماعي يتقاطع فيه الابتكار مع الحكامة.
«NazahaLab»: مختبر رقمي لمكافحة الفساد
وفي خطوة أكثر تقدماً، تعتزم الهيئة إحداث مختبر رقمي لتطوير وتجريب الحلول التكنولوجية في مجال مكافحة الفساد، تحت مسمى «NazahaLab». هذا المختبر، المزود ببنية تحتية تقنية حديثة، سيرتكز على شراكات مع مراكز البحث والجامعات والخبراء، بهدف اختبار حلول رقمية قابلة للتطبيق داخل الإدارة العمومية.
ومن بين الأهداف المعلنة:
تطوير أدوات رقمية جاهزة للاعتماد في مجال النزاهة؛
إرساء منصة تواصل بين المبتكرين والمؤسسات؛
تكوين فرق بحث وتطوير متخصصة في الحلول الرقمية لمحاربة الفساد.
جائزة للابتكار وتحفيز العقول الشابة
وتتوج هذه المشاريع بإطلاق جائزة وطنية سنوية تحت اسم «NazahaInnov»، مخصصة لاحتضان الحلول الرقمية المبتكرة في مجال النزاهة. الجائزة تروم تشجيع الإبداع التكنولوجي، وتحفيز الشباب والمقاولات الناشئة على تطوير أدوات جديدة تعزز الشفافية وتحد من ممارسات الفساد.
وبحسب الاستراتيجية، سيتم إنجاز 70 في المائة من هذا المشروع خلال السنة المقبلة، على أن يُستكمل نهائياً في أفق 2027.
رهان واعد وأسئلة مفتوحة
رهان الهيئة على الذكاء الاصطناعي يعكس وعياً متزايداً بأن الفساد لم يعد يُواجه فقط بالقوانين والخطابات، بل أيضاً بالخوارزميات، وتحليل المعطيات، والشفافية الرقمية. غير أن هذا التحول يطرح في الآن ذاته أسئلة جوهرية حول حماية المعطيات الشخصية، وضمان الاستخدام الأخلاقي للتكنولوجيا، ومدى قدرة الإدارة على مواكبة هذا الانتقال النوعي.
بين الطموح والواقع، يبدو أن المعركة ضد «غول» الفساد دخلت مرحلة جديدة، عنوانها: التكنولوجيا في خدمة النزاهة. فهل ينجح الذكاء الاصطناعي حيث تعثرت الأدوات التقليدية؟ الجواب ستكشفه السنوات القليلة المقبلة.
هذا المحتوى مقدم من أشطاري 24
