اليوم، وبعد عقود من التراجع، تحاول واشنطن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، يَعِد الرئيس دونالد ترامب بإحياء صناعة بناء السفن الأميركية، لا كترف صناعي، بل كرهان على الأمن القومي، والطاقة، والنفوذ الجيوسياسي. كيف خرجت أميركا من الصورة؟ لم تشهد صناعة بناء السفن الأميركية طفرة حقيقية منذ الحرب العالمية الثانية. وفقاً لمحللين في قطاع الشحن، شهدت البلاد ذروتين فقط خلال 110 أعوام، الأولى في الحرب العالمية الأولى، والثانية في الحرب العالمية الثانية. بعدها، تآكلت البنية التحتية، وتراجع الاستثمار، وتقلّصت العمالة الماهرة، في وقت كانت فيه آسيا تبني بهدوء هيمنتها.
اليوم، تمتلك الولايات المتحدة ثمانية أحواض سفن نشطة فقط، مقابل أكثر من 300 حوض في الصين، الفجوة ليست رقمية فقط، بل تقنية وبشرية. الصين في الصدارة وبفارق هائل
باتت الصين اللاعب الأثقل في بناء السفن التجارية عالمياً، منذ تجاوزها اليابان في 2008، ثم كوريا الجنوبية في 2010، وهي توسّع هيمنتها، حصتها من السوق العالمي تبلغ نحو 53%، وتستحوذ على ما يصل إلى 75% من طلبات السفن الجديدة في 2025. بالمقارنة، لا تتجاوز حصة الولايات المتحدة 0.2%.
دفعت هذه الهيمنة واشنطن، منذ إدارة جو بايدن واستمراراً مع ترامب، إلى فتح تحقيق تجاري خلص إلى أن بكين دعمت القطاع باعتباره صناعة استراتيجية عبر إعانات ضخمة وسياسات تقيّد التجارة الأميركية. ترامب: السفن جزء من «أميركا أولاً» في أبريل نيسان، وقّع ترامب أمراً تنفيذياً لدعم صناعة بناء السفن ضمن أجندة «اجعل أميركا عظيمة مجدداً»، تستهدف الخطة ناقلات الغاز الطبيعي المسال، وكسّارات الجليد القطبية، وسفن البحرية الأميركية. لكن حتى داخل القطاع، هناك اعتراف بأن العودة لن تكون أميركية خالصة. الخبرة الأجنبية.. شرط لا مفر منه يعتمد إحياء الصناعة الأميركية بشكل أساسي على شراكات خارجية، أبرزها مع كوريا الجنوبية، أصبحت مجموعة هانهوا الكورية، ثالث أكبر شركة لبناء السفن عالمياً، حجر الزاوية في الخطة الأميركية.
خُصّص ضمن اتفاق استثماري بقيمة 350 مليار دولار بين سيول وواشنطن، 150 مليار دولار للاستثمار البحري. اشترت هانهوا حوض فيلادلفيا لبناء السفن مقابل 100 مليون دولار، وأعلنت خطة بنية تحتية بقيمة 5 مليارات دولار لرفع قدرته الإنتاجية من سفينة واحدة سنوياً إلى 20 سفينة مستقبلاً.
عنق الزجاجة الحقيقي هو العمالة يبلغ عدد العاملين في حوض فيلادلفيا حالياً نحو 1,700 شخص، بينما تتطلب الخطة المستقبلية أكثر من 10,000 عامل. دفع نقص المدرّبين الأميركيين هانهوا إلى نقل العمال للتدريب في أحواض كوريا الجنوبية، في نموذج البناء المشترك الذي يعني واقع الفجوة الأميركية.
الطاقة أولاً.. ثم الدفاع كانت أولى الطلبات ناقلات غاز طبيعي مسال، في سابقة هي الأولى منذ نحو 50 عاماً لسفينة الغاز الطبيعي المُسال تُبنى في الولايات المتحدة. ورغم ذلك، لا تعاني صادرات الغاز الأميركي نقصاً في السفن، إذ تعتمد على أسطول عالمي. ما يجري هنا ليس أزمة طاقة، بل محاولة لبناء طلب محلي طويل الأجل.
في موازاة ذلك، طلبت هانهوا أيضاً 10 ناقلات نفط ومواد كيميائية، في أكبر صفقة تجارية من نوعها منذ أكثر من عقدين. الرهان النووي خلال جولة ترامب الآسيوية، أُعلن أن حوض فيلادلفيا سيبني أول غواصة تعمل بالطاقة النووية بالتعاون مع هانهوا. يبدو التأخر الأميركي أوضح في كسّارات الجليد، تمتلك الولايات المتحدة ثلاث سفن فقط، إحداها عمرها يقارب نصف قرن. تمتلك روسيا 57 سفينة جليدية، والصين خمساً، ومع فتح الممرات القطبية التي تختصر زمن الشحن بين آسيا وأوروبا، بات السباق استراتيجياً بامتياز.
لهذا وقّعت واشنطن اتفاقاً بقيمة 6.1 مليارات دولار مع فنلندا لبناء 11 كسّارة جليد، في إطار شراكة أوسع تشمل كندا، ضمن ما يُعرف باتفاق آي سي إيه.
هذا المحتوى مقدم من منصة CNN الاقتصادية
