يعتبر يوم 10 دجنبر من كل سنة محطة رمزية لاستحضار القيم الكونية لحقوق الإنسان، والتذكير بما راكمته البشرية، عبر مسار طويل وشاق، من مبادئ تروم صون الكرامة والحرية والمساواة. وفي هذا السياق الهادئ الذي يُفترض أن يُجدد فيه العالم صلته بهذه القيم، تزامن هذه السنة مع صدور الاستراتيجية الجديدة التي وقعها الرئيس دونالد ترامب، مؤخرا، في واشنطن، حول رؤيته للعالم، وللسياسة الخارجية، والتوازنات الجيو-بوليتك، وهي وثيقة تقع في ثلاثة وثلاثين صفحة، لا تكتفي برسم أولويات القوة الأولى في العالم، بل تتيح في الآن نفسه، قراءة دقيقة لموقع القيم داخل هندسة القرار الدولي في المرحلة الراهنة.
والقراءة المتأنية لهذا النص تعطي انطباعا بأن ما كان لعقود في قلب الخطاب الأمريكي حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة والحكامة، أصبح اليوم يتراجع تدريجيا إلى الخلف، أو يُفسَح له حيز أضيق داخل منظومة أولويات تغلّب منطق القوة والنفوذ والتنافس الاقتصادي والتكنولوجي.
ومن باب الدقة، فإن العودة إلى الوثيقة نفسها تكشف أن مفردات حقوق الإنسان و الديمقراطية لا ترد إلا نادرا، وفي إشارات عابرة لا تتجاوز، في أحسن الأحوال، أصابع اليد الواحدة عبر ثلاث وثلاثين صفحة من العرض الاستراتيجي، وهو معطى رقمي بسيط، لكنه كاشف لميزان الاهتمام الحقيقي داخل النص.
دونالد ترامب، بشخصيته المعروفة وبميله المعلن لتحويل السياسة إلى معادلات ربح وخسارة، لم يخف يوما ضيقه من منطق التعددية الأممية (multilat ralisme)، ولا من أخلاقيات العلاقات الدولية؛ فالعالم، في فلسفته السياسية، ساحة صفقات بالدرجة الأولى، أما المؤسسات الدولية، فهي أعباء مالية قبل أن تكون فضاءات تضامن، لذلك، لم يكن قرار سحب الدعم المالي عن عدد من مكونات منظومة الأمم المتحدة، وفي مقدمتها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، والمنظمة الدولية للهجرة، مجرد إجراء تقني في الميزانية، بل رسالة سياسية واضحة مفادها أن الأولوية لم تعد للقيم الكونية، بل للحسابات الوطنية الصرفة.
ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بنت جانبا كبيرا من صورتها العالمية على سردية أخلاقية تجعلها حامية للحرية وراعية للديمقراطية، على الأقل في خطابها الرسمي؛ فمن خطة مارشال إلى الحرب الباردة، ومن دعم الانتقالات الديمقراطية إلى توسيع الفضاء الليبرالي، ظل البعد القيمي حاضرا في سياساتها الخارجية، ولو بصورة متذبذبة، بل حتى حين انحرفت الممارسة، كما حدث في العراق وغيرها، ظل الخطاب نفسه قائما باعتباره مرجعية مؤطرة.
وبالرجوع إلى وثائق آخر الاستراتيجيات لسنة 2022، نجد أن الديمقراطية وحقوق الإنسان كانتا جزءً من الهندسة الفكرية للسياسة الخارجية الأمريكية، ليس فقط بوصفهما قيما أخلاقية، بل باعتبارهما أيضا من أدوات القوة الناعمة.. فقد كانت واشنطن تقول للعالم، بشكل شبه مباشر: من أراد القرب منها، فعليه أن يقترب من نموذجها السياسي والمؤسساتي.
اليوم، تتراجع اللغة المعيارية، وتحل محلها لغة المصالح الصلبة، وتنتقل الأولوية إلى التنافس بين القوى الكبرى، وتأمين الموارد، والتحكم في السلاسل الحيوية، والصراع على التكنولوجيا والمال، فلم تعد الديمقراطية شرطا في بناء التحالفات، ولم تعد حقوق الإنسان رافعة رئيسية في هندسة الخصومات، وأصبح العالم يُقرأ أكثر بمنطق التكتلات والمناطق والممرات والأسواق.
هنا تبرز مفارقة لافتة؛ أليس هذا هو بالضبط ما كانت الولايات المتحدة والغرب عامة يعيبانه على الصين لعقود؟ أليس هو النموذج الذي كان يُنتقد باعتباره يعطي الأولوية للاقتصاد والبنيات التحتية والربح المالي، ويؤجل سؤال الحقوق والحريات؟ فهل تتقدم واشنطن في مسار الواقعية الدولية على حساب المعنى الإنساني للسياسة ؟
إن فلسفة حقوق الإنسان، في عمقها، ليست مجرد نصوص قانونية، بل تعبيرا عن تصور للإنسان، وللكرامة، ولموقع الفرد داخل الجماعة، وحين تتراجع هذه الفلسفة عن مركز السياسة الدولية، فإن الذي يتراجع ليس خطابا فقط، بل مرجعية، ولو نسبيا، تضبط سلوك الدول، وتحد من انفلات السلطة من المراقبة، وتمنح للمجتمعات الهشة سندا أخلاقيا في مواجهة الانتهاكات.
كما أن الخطر الأكبر لا يكمن فقط في صمت القوة الكبرى، بل في ما يترتب عنه من عدوى رمزية؛ فحين تنسحب القيم من قلب ميزان القوة، تجد بعض الأنظمة نفسها أكثر تحررا من القيود، وأكثر جرأة في تبرير الانحراف، وأكثر اطمئنانا لغياب المساءلة.
وتُظهر تجارب التاريخ أن أي تراجع عن القيم لا يظل حبيس المكان الذي وُلد فيه القرار، بل سرعان ما يمتد أثره إلى محيط أوسع؛ فكل خيار سياسي قد يبدو قويا ومفيدا على المدى القصير، لكنه لا يدوم إلى ما لا نهاية، والتخلي عن حقوق الإنسان قد يحقق مكاسب ظرفية لبعض الدول، لكنه سرعان ما ينقلب إلى عبء ثقيل، لأن الاهتمام بهذه الحقوق ليس ترفا أخلاقيا، بل استثمارا بعيد المدى في الاستقرار، ورهانا على مستقبل المجتمعات ومصير الإنسانية نفسها.
وفي هذا السياق الملتبس، لا يعود السؤال موجها إلى واشنطن وحدها، بل إلى العالم بأسره: هل نقبل بعالم تُدار فيه المصالح بلا قيم؟ هل نتصالح مع فكرة أن الديمقراطية وحقوق الإنسان يمكن أن تتحولا من مبدأ كوني إلى ملف ثانوي؟ ثم، والأخطر، هل العالم مستعد لتحمل كلفة هذا الاختيار إذا أصبح القاعدة لا الاستثناء ؟
هذا المحتوى مقدم من صحيفة الأسبوع الصحفي

