شهدت العلاقات الاقتصادية بين ألمانيا والصين تحوّلاً استراتيجياً عميقاً بعد عقدين من التعاون الذي كان يُعدّ نموذجاً مثاليًا للشراكة التجارية الفعّالة، وخلال هذه الفترة، استفاد البلدان بشكل كبير من ازدهار التجارة العالمية، حيث لعبت ألمانيا دور المورد الأساسي للتكنولوجيا والآلات المتطورة، التي كانت الصين بحاجة إليها لتعزيز صناعاتها من السلع الاستهلاكية الموجهة للأسواق العالمية.
ويتعين الآن مع التحولات المستمرة في البيئة الاقتصادية الدولية، إعادة النظر في شكل وطبيعة هذا التعاون بما يتماشى مع التحديات والتطورات الجديدة التي تطرأ على الساحة الاقتصادية العالمية.
لكن مع تطور صناعة الصين، لم تعد بحاجة إلى ألمانيا كما في السابق، وأصبحت العديد من الشركات الألمانية الآن تسعى إلى حماية نفسها من الضغوط التنافسية المتزايدة.
ووفقاً لتقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، بدأ يظهر اتجاه جديد في ألمانيا حيث تطالب الشركات والدوائر السياسية بإعادة النظر في المبادئ الأساسية للتجارة الحرة، التي دعمت تاريخياً النجاح الاقتصادي لألمانيا.
وفي الوقت الذي بدأت فيه الشركات الصينية، المدعومة من حكومتها، تتفوق في قطاعات كانت تهيمن عليها الشركات الألمانية، بدأت العديد من الشركات الألمانية بالمطالبة باتخاذ تدابير حمائية، مثل فرض الرسوم الجمركية، وتنظيم المنافسة، وتشديد القوانين لحمايتهم من المنافسة الصينية الأرخص.
التضخم في ألمانيا يقفز خلال نوفمبر لأعلى مستوى منذ 9 أشهر
ميرز يقود التحول
كما أعلن المستشار الألماني فريدريش ميرز في نوفمبر 2025 عن خطوات لحماية الصناعة الألمانية من المنافسة الصينية، موضحاً أن الحكومة الألمانية ستفرض قيوداً صارمة على المكونات الصينية في القطاعات الحيوية مثل الشبكات المحمولة، مؤكداً دعم حكومته لسياسات «شراء المنتجات الأوروبية» في المناقصات العامة.
كما أشار إلى أن الحكومة بصدد اتخاذ إجراءات للتعامل مع المخاطر الاستراتيجية التي تطرأ نتيجة سيطرة الصين على بعض الموارد الأساسية مثل المعادن النادرة، ما يعكس تحركاً عاجلاً لتنويع سلاسل التوريد.
ويمثل هذا التحول في السياسة ابتعاداً جذرياً عن العقود الطويلة التي كانت ألمانيا خلالها من أبرز المدافعين عن التجارة الحرة.
ورغم أن العديد من الشركات الألمانية الكبرى لا تزال تعتبر الصين سوقاً أساسياً، فإن النظرة السائدة الآن هي أن أوروبا بحاجة إلى إعادة تقييم اعتمادها على الصين، ولا سيما في القطاعات الحيوية.
صناعة ألمانيا تحت الضغط
تشعر الصناعات الألمانية، خصوصاً في قطاعي السيارات والمواد الكيميائية، بالضغط الشديد من المنافسة الصينية المتزايدة.
وتشير البيانات من مركز «روديوم» للأبحاث، إلى أن الصين قد تفوقت على ألمانيا في حصة السوق العالمية في المعدات الكهربائية والمولدات بين عامي 2019 و2024.
وفي الوقت نفسه، تتنافس الشركات الصينية مع الشركات الألمانية في قطاعات مثل المواد الكيميائية والسيارات، ما يعرض الشركات الألمانية لخسائر في حصتها السوقية.
وفي قطاع السيارات، تراجعت الحصة السوقية للسيارات الألمانية في الصين، وهو سوق أساسي للمنتجات الألمانية، من النصف إلى الثلث في غضون عامين فقط.
كما زادت واردات ألمانيا من قطع غيار السيارات الصينية، مثل علب التروس اليدوية، بشكل كبير هذا العام.
وفي الوقت نفسه، انخفضت صادرات ألمانيا إلى الصين بنسبة 25% منذ عام 2019، بينما زادت الواردات من الصين بشكل كبير.
ويتوقع أن يصل العجز التجاري مع الصين إلى مستوى قياسي بلغ 88 مليار يورو (حوالي 102 مليار دولار) هذا العام، ما يعمق المخاوف من الاختلالات في العلاقة الاقتصادية بين البلدين.
الشركات تواجه تحديات كبيرة
تواجه الشركات الألمانية، لا سيما في قطاع المواد الكيميائية، ضغوطاً شديدة من المنافسة الصينية، ففي منطقة لايبزيغ، التي كانت مركزاً لصناعة المواد الكيميائية في أوروبا، يعاني المنتجون المحليون من تدفق المواد الكيميائية الصينية الرخيصة إلى السوق الأوروبية.
وتعرض الشركات الصينية خصومات تصل إلى 20% على الأسعار، ما يجعل الشركات الأوروبية غير قادرة على التنافس، وإحدى هذه الشركات هي «هيرينكنيشت»، التي تصنع وتدير آلات حفر الأنفاق المتطورة، فرغم تقنيتها المتقدمة، تواجه الشركة ضغوطاً شديدة من الشركات الصينية المدعومة من الدولة، التي تمكنت من التوسع بسرعة عبر عمليات الاستحواذ.
بدورها، تقول أنيا هيكيندورف، المتحدثة باسم «هيرينكنيشت»، إن الشركة تبحث الآن عن أسواق جديدة مثل الهند، وفي الوقت نفسه تطالب بإجراءات لمكافحة الإغراق ضد الشركات الصينية.
الصين تتوقع إنتاج 300 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي بحلول 2030
تحديات اقتصادية أوروبية
ويعد التحول في سياسة ألمانيا نقطة تحول هامة ليس فقط للبلاد، بل لأوروبا ككل، فبينما يواصل بعض كبار المصنعين الألمان النظر إلى الصين على أنها سوق أساسي، فإن التصاعد المستمر للضغوط التنافسية الصينية دفع العديد من الشركات والمشرعين إلى التفكير في المستقبل.
ويشير المحلل الاقتصادي نوح باركين من «روديوم» إلى أن أوروبا ما زالت مفتوحة أمام الاستثمارات الصينية، لكن السياسة الأوروبية الآن تركز على ضمان استفادة أوروبا من هذه الاستثمارات من حيث الوظائف ونقل التكنولوجيا.
كما يشير المحلل الاقتصادي في بنك (KfW) الألماني، ديرك شوماتشر، إلى أن ألمانيا تواجه الآن تحدياً كبيراً يتمثل في تحديد القطاعات التي يجب أن تحافظ على تصنيعها المحلي والقطاعات التي يمكنها الاستمرار في استيرادها من الصين.
ألمانيا أمام مفترق طرق
وأكد التقرير أن قرار ألمانيا بالابتعاد عن الصين يشكل لحظة مفصلية في استراتيجيتها الاقتصادية، موضحاً أنه بينما تشهد الصين تصاعداً في قوتها الاقتصادية، تواجه ألمانيا تحديات كبيرة في موازنة رغبتها في تأمين اقتصادها الوطني مع الحفاظ على الوصول إلى الأسواق الحيوية.
وسيكون من الضروري أن تحدد ألمانيا، وكذا أوروبا ككل، ما إذا كانت مستعدة للحد من اعتمادها على الصين أو إذا كانت ستظل تبحث عن طرق للتعاون مع الصين رغم المخاطر الاقتصادية والجيواستراتيجية المتزايدة.
هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس
