اللغة العربية .. الدرُّ الكامنُ

في كل عام، في الثامن عشر من ديسمبر، تحتفل البشرية بـ اليوم العالمي للغة العربية، وهو اليوم الذي صدر فيه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3190 سنة 1973 باعتماد العربية ضمن اللغات الرسمية الست للأمم المتحدة؛ وبعد هذا اعترافا حضاريّا عالميّا بمكانة لغةٍ ظلّت لقرون لسان الفكر والعلم والدين، ومفتاحًا للتنوع الثقافي الإنساني.

وما زال هذا اليوم إلى يومنا هذا فرصةً لتذكير العالم بأن العربية ليست تراثًا جامدًا، هي كائن حيّ يتنفس في مجالس الأدب والمختبرات والمعامل ومواقع البناء والفضاء الرقمي.

في مقالنا هذا، سنبيّن كيف أن العربية قادرة على أن تتكلم فنون هندسة البنيان والعمران كما تتكلم الشعر والبيان، وسنضرب أمثلةً من معجمها العريق، ومن مفردات البنيان والهيكلة والتشييد التي تشهد على عبقريتها البنيوية.

إنها اللغة التي تستطيع أن تُعبّر عن “العمود” و”العتبة” و”القنطرة” كما تُعبّر عن “القصيدة” و”العبارة”.

سنغوص معًا في محاور هذا المقال اللساني الفلسفي الهندسي، حيث تمتزج البنية اللغوية بالبنية المعمارية في وحدةٍ جماليةٍ مدهشة، تشهد أن العربية ليست لسان البيان فحسب، بل لسان البنيان والعمران أيضًا.

العربية .. بنيةٌ هندسية قبل أن تكون لغة

إن المتأمل في نظام العربية يجد نفسه أمام صرح لغوي هندسي متكامل؛ فالجذر الثلاثي فيها أشبه بقاعدة خرسانية تُبنى عليها الصيغ والدلالات. والحركات علاماتُ توازنٍ صوتي تشبه التوازن الإنشائي في الأعمدة والقناطر.

فليس عبثا صوتيا أن نجد الاشتقاق في العربية عبارة عن عملية هندسية فكرية .. تُغيَّر الصيغة فيتحول المعنى بدقة كما تُعدَّل الزاوية فيتغيّر اتجاه الجدار دون أن يختل المبنى.

فحين يقول العربي: “بنى، بنيان، بناء، مبنى، بنية، بناية”، فهو في الحقيقة يمارس هندسة لغوية تُحافظ على الأصل وتُغيّر الشكل. فكما يُعيد المهندس المدني توزيع الأحمال في السقف، تُعيد العربية توزيع الأصوات بين فاءٍ وعينٍ ولامٍ لتحافظ على المعنى العام مع إبداع تفاصيل جديدة.

إن هذه المرونة الاشتقاقية هي سرّ خلودها، لأنها لغة لا تعرف الجمود؛ كل لفظ فيها مشروعٌ مفتوح للتجديد، وكل جذرٍ يُمكن أن يُشيّد فوقه معجمٌ علميّ متكامل. ولذلك قال ابن جني: “العربية علّةُ نفسها، والقياس أصلها”. إنها لغة تبني ذاتها بذكاء داخليّ لا يحتاج إلى استعارة من الخارج.

المعمار اللغوي في العربية .. حين يتكلّم البنيان

إذا كانت العربية لسان الروح والفكر، فهي أيضًا لسان البنيان والعمران .. لغةٌ تُقيم المعنى كما يُقيم المهندس الجدار، وتؤسِّس اللفظ كما تُؤسَّس القاعدة، حتى يصبح الكلام في العربية هندسةً ناطقة، يُقاس فيها التوازن بالوزن، ويُرصد فيها الانسجام كما تُرصد خطوط تصاميم المعمار.

ولقد تجلّى هذا البعد الهندسي في أسمى مظاهره في القرآن الكريم الذي أنزل على رسولنا الكريم محمد – صلى الله عليه وسلم – بلسان عربي مبين، حيث تتكلم العربية عن البناء لا ككتلةٍ جامدة، بل ككائنٍ حيٍّ يتحرّك وينطق ويُعبّر.

فلننظر إلى بعض هذه اللآلئ اللفظية التي تُظهر عظمة اللغة في وصف البنيان وصفًا علميًّا وجماليًّا معًا:

1. {جدارٌ يريد أن ينقضّٓ﴾.. الهندسة في هيئة إرادة

في سورة الكهف، يقول تعالى: {فوجد فيها جدارًا يريد أن ينقضّ فأقامه} ..فيا لجلال هذا التعبير! فـ {جدار يريد} ليس مجازًا عابرًا، هو صورة فيزيائية هندسية تُحاكي الميلان قبل الانهيار، وكأن الجدار ذاته يحمل طاقة الانهدام في توازنه المهدّد . فالجدار متداعي السقوط.

إنه تعبيرٌ يُعلِّم المهندس واللغوي معًا أن اللغة يمكن أن تصف الديناميكية البنيوية أدقّ مما تفعل آلات القياس الحديثة.

2.{صياصيهم} .. الحصون والأنظمة الدفاعية.

قال تعالى: { وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾[ الأحزاب: 26].

قال: ﴿صياصيهم﴾، أي: الحصونُ المنيعة وهي نوع من الأنظمة الدفاعية كانت قائمة في الهندسة الحربية.

واللفظة من مادة “صيص” فهي توحي بالتشابك والصلابة ..وقد جاء في لسان العرب لابن منظور: “وكلُّ شيء امْتُنِع به وتُحُصِّنَ به، فهو صِيصةٌ، ومنه قيل للحصون: الصِّياصِي” /انتهى.

فكأن هذه الصياصي تصميمٌ هندسي دقيق لأنظمة الدفاع والتحصين في المعمار العسكري.

3.{زُبر الحديد} .. الهندسة المعدنية وبنية القوة

قال تعالى: {آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارًا قال آتوني أفرغ عليه قطرًا}

هنا نحن أمام مصطلحٍ معدني هندسي بامتياز. فـزُبر الحديد هي قطع الحديد الكبيرة المقطّعة والمصقولة، أشبه بالوحدات الإنشائية الجاهزة التي تُكوّن البناء الهيكلي والمنشآت المعدنية .. وقد استُعملت في سياق بناء السدّ الردمي، أحد أروع نماذج الهندسة المدنية في التاريخ القرآني.

4.{القِطر} .. النحاس المذاب والتقنية الحرارية

في الآية نفسها، يأتي ذكر القطر، أي النحاس المُذاب، وهو ما نُسمّيه.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من هسبريس

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من هسبريس

منذ ساعتين
منذ 6 ساعات
منذ 7 ساعات
منذ ساعتين
منذ ساعتين
منذ ساعة
Le12.ma منذ 3 ساعات
هسبريس منذ 19 ساعة
موقع بالواضح منذ 18 ساعة
آش نيوز منذ 6 ساعات
هسبريس منذ 13 ساعة
Le12.ma منذ 8 ساعات
Le12.ma منذ 4 ساعات
هسبريس منذ 16 ساعة