تتوه الأرواح منذ اللحظة الأولى التي يفتح فيها فيلم “Sentimental Value” أبواب بيته القديم، كأنه يجرُّ المشاهد إلى قلب ذاكرة لا تعرف الرحمة، ذاكرة تتنفس وتختنق وتطلب الخلاص في آن واحد. تتماوج المشاهد مثل أمواج بطيئة، تحمل معها شظايا الحب والندم، وتعيد طرح الأسئلة التي نخاف مواجهتها: هل تُشفى الجراح حين نواجهها، أم حين نهرب منها؟ وهل يكون الفن طريقًا للتوبة أم ستارًا نخفي خلفه حقيقتنا؟ وهل يمكن للذاكرة أن تُسامح من خانها؟ تزداد الأسئلة قسوة حين نسمع الأب يهمس قائلًا: “أخاف أن يطالبني الماضي بما ظننتُ أنَّه نجا مني”. تنبض هذه الكلمات كجرس إنذار داخلي، يطرق أبواب القلب قبل العقل. وتغدو مقدمة الفيلم حلمًا ثقيلًا وساحرًا، تفتح الطريق إلى فيلم يعبر من سطح الحكاية إلى أعماق الإنسان، حيث لا شيء يبقى كما يبدو، وحيث الحقيقة لا تنطق إلا حين نصغي لصمتها.
ثلاثية العائلة والذاكرة والفن
يستهل المخرج النرويجي يواكيم ترير (Joachim Trier) أحدث أعماله السينمائية “Sentimental Value” – “القيمة العاطفية” (2025/ المدة 133 دقيقة) بإخراج وبصيغة سردية تضع العائلة والذاكرة والفن في صميم صدمتها. فقد كُتب السيناريو بالاشتراك مع إسكيل فوجت (Eskil Vogt)، بينما تكفلت هانيا راني (Hania Rani) بموسيقى الفيلم، وبرز في طاقم التمثيل أسماء لافتة مثل ريناته رينسفي (Renate Reinsve) وستيلان سكارسغارد (Stellan Skarsgård) وإيل فانينغ (Elle Fanning) وغيرهم. وصدر الفيلم ولاقى اهتمامًا نقديًا كبيرًا بعد عرضه في مهرجان كان السينمائي (2025)، حيث حظي بتصفيق طويل من الجمهور والنقاد.
يركز الفيلم على قصة عائلية معقدة، حيث تفقد الشقيقتان – نورا وأغنيس – والدتهما، ثم يفاجئهما والدهما “غوستاف” الذي غاب عن حياتهما لسنوات طويلة. يعود الأب محملاً بسيناريو فيلم يريد أن يصوّره داخل البيت العائلي القديم، ويريد من نورا أن تؤدي دور والدتهما الراحلة. ترفض نورا العرض رفضًا قاطعًا، فيُسند الدور إلى ممثلة أمريكية شابة (إيل فانينغ). وبهذا القرار تتفتح الحكايات على صدى حكايات أوسع؛ ليس فقط صدامًا بين الطموح المهني والولاء الأسري، وإنما مواجهة مرآوية لصدمات الطفولة والجراح التي لم تندمل بعد.
ومن الناحية السردية والفيلمية، يبني المخرج ترير فيلمه كـ “مسرح عائلي متعدد الأصوات”؛ فالمنزل نفسه يتحول إلى كائن حي يحمل ذاكرة العائلة وأسرارها وجراحها عبر الأجيال. ويصبح البيت مسرحًا تتلاقى فيه الحقيقة والخيال، حيث تتقاطع الصدمات الماضية مع طموحات الحاضر عبر الكاميرا والصمت. تُظهر هذه البنية أن الفيلم ليس مجرد قصة عائلة فحسب، وإنما هو تأمل في مفهوم الذاكرة والهوية، مع سؤال مركزي: كيف نصنع ذكرياتنا؟ وكيف تتحول إلى مشاهد سينمائية؟
من منظور خطابي، يستند الفيلم إلى ثنائية اللغة والجسد، حيث تأتي اللغة عبر السيناريو الداخلي والحوارات والذكريات؛ أما الجسد فهو الجسد العائلي: طفولة ضائعة، وألم الفقدان، وغضب مكبوت أو حنين خافت. وهنا يصطنع المخرج ترير جسرًا بين الجسد والذاكرة، حيث يحمل الجسد الذي عاش الصدمة عبئها بصمت، بينما تمنحه السينما صوتًا وصورة.
استغلال الألم من أجل النجاح
يركز الفيلم على أفكار مركزية عديدة: الإرث العاطفي والجراح التي تنتقل عبر الأجيال، فكرة المصالحة – أو عجزها – بين الآباء والأبناء، وقيمة الفن كوسيلة مواجهة للذاكرة أو كوسيلة هروب من الألم. وفي هذا الإطار، يشكل رفض نورا أداء الدور محاولة لرفض التمثيل الزائف للواقع، ورغبة في أن تبقى الذاكرة خالصة غير مشوهة.
وتنضج فكرة الفيلم الكبرى في أنه يسائل بعمق: هل يمكن للسينما أن تكشف الحقيقة أم أنها مجرد مرآة مشوهة للذات؟ وهل الفن وحده كافٍ ليعالج تطلعات الإنسان للخلاص من ألم الماضي؟
تستحضر الأحداث خلفيات اجتماعية وثقافية عميقة، فالفيلم لا ينظر فقط إلى العلاقة العائلية كفضاء خاص، بل كمساحة تتداخل فيها القيم المجتمعية – حب الأبناء للأب، وفداحة الخيانة العاطفية أو تجاهل الماضي. ويطرح تساؤلات عن كيف يمكن أن يتحول مكان مثل البيت – المحفوظ للعائلة والسرِّ – إلى أرض إنتاج سينمائي تستغل الألم من أجل الفن أو النجاح.
ومن الناحية الجمالية، لا يعتمد فيلم “القيمة العاطفية” على إثارة فجة أو صدمات بصرية، وإنما على رهافة الظلال، وبرودة الضوء، وصمت البيوت القديمة، وموسيقى ناعمة تعكس ثقل الذكريات. تبرز هذه التفاصيل البصرية والصوتية بُعدًا خاصًا للذكريات – منزل مليء بالصور القديمة، غرف مغلقة، أضواء خافتة، وكلها تنادي بصمت ماضٍ لم يتم تجاوزه.
وتكمن القضية الكبرى التي يثيرها الفيلم في صراع الفن والصراحة، حين يتحول الفن إلى محاولة لإعادة كتابة التاريخ العائلي: من يملك الحق في سرد هذا التاريخ؟ المخرج أم الابنة؟ وهل يمكن للفيلم أن يكون وسيلة للتطهير النفسي أم مصيدة لإعادة إنتاج الألم بأي شكل؟
كما يطرح الفيلم فكرة الهوية؛ هوية الفرد داخل العائلة، والهوية التي يحملها الفن. هل الفنان حر؟ وهل السينما وسيلة حرة للتعبير، أم أنها مقيدة بذكريات وعلاقات ومسؤوليات عاطفية؟
وفي خلفية ثقافية أوسع، يضع المخرج ترير وقفات حول الذاكرة الجماعية والعائلية في المجتمعات المعاصرة، متسائلًا: كيف تُنقل الصدمات عبر الأجيال؟ وكيف يتعامل الأبناء مع إرث ليس من صنعهم؟ وكيف يمكن أن يصبح الفن وسيلة مواجهة أو تسوية؟
يلامس الفيلم هذه الأسئلة دون تقديم إجابات قاطعة. ويقدِّم دعوة إلى تأمل الذات، إلى مواجهة الماضي، أو ربما إلى الاعتراف بأن بعض الجراح تبقى بلا تعويض.
من خلال فيلم “القيمة العاطفية”، يقدم المخرج ترير عملًا سينمائيًا بالغ الرقة والقوة في آن واحد، ويذكرنا بأن الزمن لا يشفي دائمًا، وأن البيت ليس مجرد جدران، فهو ذاكرة حية، وأن الفن أحيانًا يكون مرآة لما نحن عليه، قبل أن يكون نافذة إلى ما نريد أن نكون.
الفراغات العاطفية: سنوات من الغياب والتردد والخوف
تتجلى صورة البطل في فيلم “القيمة العاطفية” بصورة مركبة تتجاوز نمط البطولة التقليدية، إذ يبني الفيلم شخصياته داخل فراغات عاطفية عميقة، وفي فضاء سردي يجعل البطل هشًا ومترددًا وممزقًا بين ما يريد وما يهرب منه. وتأتي شخصية الأب غوستاف، ومعها شخصية نورا الابنة، بوصفهما مركز الثقل الدرامي، حيث تنفتح عبرهما إشكاليات الذات والآخر، وتمثّلات الهوية الفردية والعائلية، وصراع الذاكرة مع الحاضر.
ترسم الأحداث ومساراتها غوستاف بوصفه فنانًا يحمل رغبة ملتهبة في صياغة الحكاية العائلية بطريقة تمنحه دور المبدع والمخلِّص، بينما يحمل داخله خوفًا دفينًا من مواجهة الحقيقة. وتكشف إحدى عباراته عن هذا القلق حين يقول: “أخاف أن أنظر في عيون الماضي فأرى صورتي الحقيقية”. تظهر هذه العبارة هشاشة الأب من الداخل، إذ لا يهرب من العائلة فقط، وإنما من ذاته التي يشعر أنها تلاشت في سنوات من الغياب والتردد والخوف.
وتصبح نورا، في المقابل، بطلة من نوع آخر، بطلة مقاومة لا تبحث عن البطولة وإنما عن الحقيقة، فتتمسك بحقها في الذاكرة وتصر على عدم السماح للفن بأن يصبح وسيلة لتزييفها. تكشف عن موقفها في قولها المؤثر: “لا أريد أن أمثل دور أمي، أريد فقط أن تبقى حقيقتها كما كانت، لا كما تريد أن تسردها”. تأتي هذه العبارة كإعلان صريح لحدود الذات، إذ ترفض نورا أن تتحول إلى أداة في.....
لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه
هذا المحتوى مقدم من هسبريس
