في ظل الضغوط الاقتصادية المتصاعدة وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، تتكرّس في المجتمع العراقي ظاهرة إنفاق اجتماعي استعراضي باتت تتجاوز حدود المناسبات إلى نمط سلوكي ضاغط، ولا سيما في حفلات الزواج والخطوبة، حيث تحوّلت هذه المناسبات من محطات إنسانية لبناء الاستقرار الأسري إلى ساحة مقارنة طبقية مفتوحة، تُقاس فيها المكانة الاجتماعية بحجم الصرف لا بقدرة الأفراد على تحمّل المسؤولية أو تحقيق الاستقرار.
ومع اتساع الفجوة بين الطبقات، يجد ذوو الدخل المحدود أنفسهم أمام معايير استهلاكية مفروضة اجتماعيًا، لا تنسجم مع واقعهم المعيشي، ما يدفع كثيرين إلى الاستدانة أو تأجيل مشاريع الزواج، أو الدخول في التزامات مالية تفوق إمكاناتهم الفعلية، خشية الوصم الاجتماعي أو الظهور بمظهر غير اللائق قياسًا بما بات شائعًا في محيطهم الاجتماعي.
ويرى مختصون أن هذه الظاهرة لا تنفصل عن سياق اقتصادي وسلوكي متشابك، إذ يتزامن تصاعد الإنفاق الاستعراضي مع تراجع مستويات الدخل وغياب الاستقرار الوظيفي، فضلًا عن التأثير المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي التي أسهمت في تعميم نماذج استهلاكية مبالغ فيها، وتقديمها بوصفها معيارًا للنجاح والوجاهة الاجتماعية.
بدوره أكد الخبير الباحث في الشأن الاقتصادي حسين نعمه الكرعاوي أن الفجوة الطبقية باتت تظهر بوضوح خلال المناسبات الاجتماعية، ولا سيما الخطوبة وحفلات الزواج، التي تحولت من مناسبات تهدف إلى بناء الأسرة إلى ساحات مفتوحة للاستعراض المادي والمقارنة الطبقية.
وأوضح الكرعاوي أن تردي الأوضاع الاقتصادية من جهة، والتأثير المتزايد لوسائل التواصل الاجتماعي من جهة أخرى، أسهما في ترسيخ ثقافة البذخ والتفاخر، حيث تُقدَّم مظاهر الإنفاق المفرط على أنها مؤشر للنجاح والمكانة الاجتماعية، ما خلق ضغطًا نفسيًا واقتصاديًا كبيرًا على فئة الشباب، خصوصًا من ذوي الدخل المحدود .
وقال الكرعاوي لـ عراق أوبزيرفر إن معايير الاختيار في الزواج تغيّرت، إذ لم تعد تركز على الأخلاق أو الوعي أو الاستعداد لتحمل المسؤولية، بقدر ما باتت محصورة في حجم الإنفاق والمظاهر، الأمر الذي دفع بعض الأفراد إلى اللجوء للاستدانة أو المبالغة المصطنعة لمجاراة ما يُعرض على المنصات الرقمية .
وحذر من أن أخطر ما في هذه الظاهرة هو قياس قيمة الإنسان بما يمتلكه لا بما يحمله من قيم ومعرفة ، مؤكدًا أن الحد منها لا يقتصر على الإصلاح الاقتصادي فقط، بل يتطلب دورًا فاعلًا للإعلام والمؤسسات التربوية والدينية في ترسيخ ثقافة البساطة والمسؤولية الاجتماعية .
ارتفاع نسب الفقر
وفي السياق ذاته، يروي شاب عراقي مقبل على الخطوبة جانبًا من الضغوط التي يواجهها، قائلًا إن التحضير للزواج بات أشبه باختبار مالي قاسٍ لا يراعي الظروف الواقعية للشباب.
ويقول أحمد جاسم، موظف في القطاع الخاص، لـ عراق أوبزيرفر إن مشروع الزواج بالنسبة لي تحوّل من خطوة طبيعية في الحياة إلى عبء نفسي واقتصادي كبير، بسبب التوقعات العالية المتعلقة بقيمة المهر، وحفل الخطوبة، وتكاليف القاعة والهدايا .
ويضيف أن معظم هذه المتطلبات لا علاقة لها ببناء أسرة مستقرة، لكنها أصبحت شرطًا اجتماعيًا غير معلن، ومن لا يلتزم به يُنظر إليه على أنه غير جاد أو غير قادر، حتى لو كان يمتلك أخلاقًا واستعدادًا حقيقيًا لتحمل المسؤولية .
ويشير أحمد إلى أن كثيرًا من أصدقائه اضطروا إلى تأجيل الزواج أو اللجوء إلى القروض لتغطية نفقات المناسبات، مؤكدًا أن الاستدانة من أجل إرضاء المجتمع لا تصنع استقرارًا، بل تزرع أزمات مستقبلية داخل الأسرة منذ يومها الأول .
وتشير بيانات رسمية إلى أن نسبة الفقر في العراق بلغت نحو 17.5%، ما يعني أن شريحة واسعة من المجتمع تعاني صعوبة في تلبية احتياجاتها الأساسية، في وقت تشهد فيه بعض المناسبات الاجتماعية مستويات مرتفعة من الإنفاق والبذخ، وهو ما يطرح تساؤلات جدية حول أولويات الإنفاق وأنماط الاستهلاك السائدة، وانعكاساتها على التماسك الاجتماعي والاستقرار الأسري في بلد يرزح أصلًا تحت ضغوط اقتصادية متراكمة
هذا المحتوى مقدم من عراق أوبزيرڤر
