رحلة الذهب عبر العصور.. كيف أصبح قلب الاقتصاد ومرآة الثقة العالمية

في عالم يهيمن عليه المال الرقمي، حيث تتحرك الأصول المشفرة في فضاء افتراضي لا ملمس له، يظل الذهب صامداً، كأنه يرفض أن يغادر التاريخ. إنه المعدن الذي تحدى الزمن والتكنولوجيا والابتكارات المالية الحديثة ليبقى مرجعاً ثابتاً وملاذاً أخيراً يلجأ إليه الجميع حين تعصف الأزمات الاقتصادية.

هذا المشهد يثير سؤالاً جوهرياً.. كيف لمعدن أصفر، بلا عائد مباشر ولا أرباح ملموسة، أن يظل المقياس الأصدق للثقة العالمية بالاقتصاد؟ تكمن الإجابة في قصة الذهب نفسها. فهي ليست حكاية سلعة عابرة، بل سجل حي لتطور الثقة الإنسانية، رحلة بدأت كحِلية لامعة تتزين بها الحضارات القديمة، ثم تحولت إلى العمود الفقري للنظام المالي العالمي، قبل أن تستقر اليوم في مكانها الأبدي، قلب الاقتصاد، حيث يظل الذهب رمزًا للثروة والاستقرار، والمقياس الأصدق لقيمة المال والطمأنينة عبر العصور.

المحطة الأولى: اختراع "الثقة" في ليديا

قبل أن يصبح الذهب مالاً كان جميلاً. بدأ تاريخه المعروف في أوروبا الشرقية حوالي 4000 قبل الميلاد، حيث استُخدم لصنع أشياء زخرفية. لآلاف السنين، كان الذهب رمزاً للخلود والسلطة، وغالباً ما كان يمثل الشمس. حتى عندما استخدمته الإمبراطورية المصرية القديمة "كوسيط رسمي للتبادل" حوالي 1500 قبل الميلاد كان لا يزال يعاني من مشكلة عملية، كان على التجار وزن واختبار نقاء المعدن عند كل معاملة باستخدام "حجر المحك".

ومع مرور الوقت، جاء الابتكار الذي سيغيّر اللعبة إلى الأبد من مملكة ليديا، في تركيا الحديثة. فحوالي عام 560 قبل الميلاد، لم يكن الملك كروسوس أول من سكّ العملة، لكنه كان صاحب الخطوة العبقرية، إصدار أول عملات معدنية من ذهب خالص وفضة خالصة، لتصبح معيارًا جديدًا للثقة والتبادل. الأهم من ذلك، أنه وضع عليها "ختم الملك". لم يكن هذا مجرد اختراع لعملة معدنية، بل كان اختراعاً لـ "الثقة الموحدة" التي ترعاها الدولة. لم يعد التاجر بحاجة لاختبار المعدن؛ لقد أصبح يثق بـ "ضمان الدولة". لقد نقل كروسوس الثقة من المعدن نفسه إلى السلطة التي تقف خلفه، وهي اللحظة التي وُلد فيها المال الحديث.

المحطة الثانية: هوس "الميركانتيلية" وثمن النهب

بعد قرون، تحوّلت وظيفة الذهب من مجرد ضمان اقتصادي إلى هوس حقيقي. ومع صعود الإمبراطوريات الأوروبية في القرن السادس عشر، برزت نظرية "الميركانتيلية" (Mercantilism) التي هيمنت على التفكير الاقتصادي. كانت العقيدة بسيطة وخطيرة في آن واحد: ثروة العالم ثابتة ومحدودة، والطريقة الوحيدة لتصبح دولة ما أغنى هي أن تجعل دولة أخرى أفقر. وهكذا أصبحت التجارة "لعبة محصلة صفر".. في هذا العالم، كانت الثروة تُقاس بشيء واحد وهو كمية السبائك من الذهب والفضة المكدسة في الخزائن. وأصبح الهدف الوحيد لكل دولة هو تحقيق فائض تجاري دائم لضمان تدفق الذهب إلى الداخل. كان هذا الهوس هو المحرك الأساسي للبحث عن الذهب والفضة في العالم الجديد.

استخدمت الإمبراطورية الإسبانية القديمة أنظمة عمل قاسية، مثل "الإنكوميندا" (Encomienda) لاستخراج كميات هائلة من المعادن الثمينة من الأميركيتين. وطوال القرن السادس عشر، كانت السبائك تمثل "80% على الأقل" من قيمة جميع الشحنات المتجهة إلى أوروبا. ولكن التاريخ لم يرحم هذا التدفق الهائل للذهب، الذي جعل الإمبراطورية الإسبانية الأغنى في العالم لفترة وجيزة، ثم دمر اقتصادها في النهاية.

تسبب في تضخم مفرط، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 400%. وبدلاً من أن يبقى الذهب في مدريد، "تدفق عبرها" لتمويل الحروب وشراء السلع من دول أكثر إنتاجية مثبتًا أن تكديس رمز الثروة يمكن أن يدمر محركاتها الحقيقية. ومع انهيار الهوس بالمكدسات الذهبية، جاء عصر جديد من الانضباط النقدي، الذهب أصبح أكثر من مجرد ثروة، أصبح أساس النظام المالي العالمي".

المحطة الثالثة: "القفص المذهب" والانضباط العالمي

مع بداية القرن التاسع عشر، ومع مرور الزمن، وصل الذهب إلى ذروة قوته فيما عُرف بـ "معيار الذهب الكلاسيكي" (1880-1914). لم يعد الذهب مجرد ثروة تُكدس، بل أصبح هو النظام النقدي العالمي نفسه.

في هذا النظام، قامت كل دولة كبرى بربط عملتها بكمية محددة من الذهب. في الولايات المتحدة، تم تحديد السعر عند 20.67 دولارًا للأونصة. كان النظام يبدو وكأنه آلة دقيقة "تصحح نفسها ذاتياً".

ومع مرور الوقت، ظهر الوجه المزدوج لهذا الانضباط: النظام كان يُدار بانضباط حديدي من لندن، لكن كان "قفصاً مذهباً" يفرض ثمنًا باهظًا وتقلب عنيف في نمو الدخل، وبطالة مرتفعة، وتقييد أيدي الحكومات في استخدام السياسة النقدية لمكافحة الركود.

في هذا النظام، قامت كل دولة كبرى بربط عملتها بكمية محددة من الذهب. في الولايات المتحدة، تم تحديد السعر عند 20.67 دولارًا للأونصة. كان النظام يبدو وكأنه آلة دقيقة "تصحح نفسها ذاتياً". إذا واجهت دولة عجزاً تجارياً، يتدفق الذهب منها للخارج، فكان عليها اتباع ماعرف بقواعد اللعبة: "رفع أسعار الفائدة" لتقليص المعروض النقدي وجذب الذهب مرة أخرى. كان هذا النظام يُدار بانضباط حديدي من لندن.

كان بنك إنجلترا، كما وصفه كينز، "قائد الأوركسترا الدولي"، يدير فعلياً تكلفة الائتمان للعالم بأسره. لكن هذا النظام كان "قفصاً مذهباً"، فضيلته الكبرى كانت الحفاظ على استقرار الأسعار على المدى الطويل؛ إذ بلغ متوسط التضخم في أمريكا نحو 0.1% سنويًا. لكن ثمن هذا الاستقرار كان باهظًا.. تقلبات حادة في نمو الدخل، وبطالة مرتفعة بلغ متوسطها 6.8% في الولايات المتحدة.

والأسوأ من ذلك أنه قيّد أيدي الحكومات؛ فلم يكن بإمكانها استخدام أدوات السياسة النقدية، مثل خفض أسعار الفائدة، لمواجهة الركود. كانت الأولوية دائمًا لحماية ربط العملة بالذهب، حتى لو جاء ذلك على حساب وظائف المواطنين ومعيشتهم.

ومع تراكم الأزمات العالمية، بدأت التشققات تظهر في هذا النظام الصلب، كاشفةً هشاشة الاعتماد المطلق على الذهب، وممهّدةً الطريق لولادة معايير نقدية جديدة.. "لكن هذا الانضباط لم يدم طويلاً، إذ كشفت الأزمات العالمية ضعف الاعتماد المطلق على الذهب، مما مهد الطريق لمعايير جديدة".

المحطة الرابعة: الانهيار الكبير ومعركة بريتون وودز

مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، انهارت هذه الآلة الدقيقة، ثم جاء الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن العشرين ليكشف هشاشة الاعتماد المطلق على الذهب. خلال الأزمة، تعلمت الدول درسًا مهماً: تلك التي تخلّت عن معيار الذهب مبكراً، مثل بريطانيا عام 1931، بدأت التعافي أولًا. هذا الدرس حمل إلى مؤتمر "بريتون وودز" عام 1944، حيث خاضت القوى الكبرى معركة لتحديد مستقبل الاقتصاد العالمي. لكن الضربة القاضية جاءت مع "الكساد الكبير" في ثلاثينيات القرن العشرين. كشفت هذه الأزمة أن "عقلية معيار الذهب" كانت هي التي حولت الركود العادي إلى كارثة عالمية. "قواعد اللعبة" تطلبت من البنوك المركزية أن تفعل عكس ما يحتاجه الاقتصاد تماماً: فبدلاً من ضخ السيولة، أُجبروا على رفع أسعار الفائدة لحماية احتياطياتهم الذهبية، مما أدى إلى تعميق الأزمة.

تُظهر البيانات بوضوح أن الدول التي "تركت معيار الذهب مبكراً" مثل بريطانيا عام 1931 كانت أول من بدأ بالتعافي. كان الدرس المستفاد سياسياً.. لم يعد من الممكن إخبار الناخبين العاطلين عن العمل أنه يجب عليهم المعاناة للحفاظ على سعر ثابت لمعدن أصفر، هذا الدرس هو الذي حمله المفاوضون معهم إلى مؤتمر "بريتون وودز" عام 1944.

في هذا الاجتماع التاريخي، لم يكن الهدف مجرد بناء نظام جديد، بل خوض معركة لتحديد مستقبل الاقتصاد العالمي. المعركة في.....

لقراءة المقال بالكامل، يرجى الضغط على زر "إقرأ على الموقع الرسمي" أدناه


هذا المحتوى مقدم من صحيفة الاتحاد الإماراتية

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من صحيفة الاتحاد الإماراتية

منذ 5 ساعات
منذ 6 ساعات
منذ 4 ساعات
منذ 10 ساعات
منذ 4 ساعات
منذ ساعتين
الشارقة للأخبار منذ 17 ساعة
صحيفة الخليج الإماراتية منذ 9 ساعات
صحيفة الخليج الإماراتية منذ 10 ساعات
الشارقة للأخبار منذ 8 ساعات
صحيفة الخليج الإماراتية منذ 12 ساعة
صحيفة الخليج الإماراتية منذ ساعة
موقع 24 الإخباري منذ 6 ساعات
صحيفة الخليج الإماراتية منذ 10 ساعات