الاستمطار في الإمارات.. استثمار اقتصادي في إدارة ندرة المياه

تعاملت دولة الإمارات العربية المتحدة مع ملف المياه باعتباره أحد عناصر الاستقرار الاقتصادي الكلي، لا مجرد قضية بيئية أو ظرف مناخي طارئ.

ففي اقتصاد يتسم بتوسع عمراني متسارع ونمو سكاني مستمر، تصبح كلفة شحّ المياه عاملاً مؤثراً في التخطيط المالي طويل الأجل، سواء على مستوى البنية التحتية، أم الأمن الغذائي، أم تنافسية القطاعات الإنتاجية. ومن هذا المنطلق، لم يعد تأمين الموارد المائية مسألة تشغيلية، بل متغير استراتيجي يدخل مباشرة في حسابات النمو والاستدامة.

في هذا الإطار، جاء الاستثمار في تقنيات الاستمطار المتقدمة كجزء من سياسة تنويع أدوات إدارة الموارد، تهدف إلى تقليل الاعتماد الأحادي على تحلية المياه، التي تُعد من أكثر الحلول كلفة من حيث استهلاك الطاقة، والإنفاق الرأسمالي، والأثر البيئي. ويعكس هذا التوجه انتقالاً من منطق المعالجة إلى منطق إدارة المخاطر، عبر توزيع مصادر الإمداد المائي ورفع مرونة النظام ككل.

وتشير بيانات رسمية إلى أن متوسط هطول الأمطار السنوي في دولة الإمارات لا يتجاوز 100 ملم في معظم المناطق، وهو مستوى لا يغطي سوى نسبة محدودة من الطلب المحلي على المياه. في المقابل، تُقدَّر مساهمة التحلية بأكثر من 80% من إمدادات المياه العذبة، ما يجعل أي اضطراب في كلفة الطاقة أو سلاسل الإمداد عاملاً مؤثراً على الأمن المائي.

من هنا، لا يُنظر إلى الاستمطار كحل بديل، بل كأداة اقتصادية مكمّلة تسهم في تقليل المخاطر، وتوزيع الكلفة، وتعزيز مرونة المنظومة المائية.

دبي ترسي عقود 4 مشاريع لتطوير تصريف مياه الأمطار بـ391 مليون دولار

تصعيد تشغيلي مدفوع بحسابات العائد

خلال عام 2025، انتقل برنامج الاستمطار من مرحلة التشغيل الاعتيادي إلى مرحلة التكثيف المنهجي، حيث نفّذ «المركز الوطني للأرصاد» 172 طلعة جوية منذ بداية العام، في مؤشر على توسع محسوب يستند إلى جاهزية تقنية وبنية تشغيلية متقدمة. هذا التصعيد يعكس نضج البرنامج وقدرته على العمل ضمن نطاق واسع دون الإخلال بالكفاءة أو رفع الكلفة التشغيلية بشكل غير مبرر.

ولا يمكن قراءة هذا التوسع بمعزل عن الهدف المعلن بزيادة معدلات هطول الأمطار بنسبة تتراوح بين 10% و25%، وهي نسبة ذات أثر اقتصادي مباشر عند احتسابها على مستوى الموارد الجوفية، وتقليل الضغط على محطات التحلية، وخفض كلفة إنتاج المتر المكعب من المياه. فكل زيادة في الهطول المطري تُترجم إلى وفورات محتملة في التشغيل والصيانة، وتخفيف للأعباء الرأسمالية المستقبلية.

اقتصادياً، تمثل هذه الزيادة المحتملة في الأمطار عائداً غير مباشر على الاستثمار المناخي، يعزز قدرة الدولة على امتصاص الصدمات المرتبطة بتقلبات الطقس، خاصة في سنوات الجفاف أو انخفاض المعدلات المطرية عن المتوسط، كما حدث خلال الموسم الشتوي الأخير.

بنية تقنية تعظّم إنتاجية السحابة

اعتمدت الإمارات نهجاً يقوم على تعظيم العائد من كل عملية استمطار، بدلاً من التوسع الكمي غير المدروس في عدد الطلعات الجوية. فالمولدات الأرضية (GBGs)، التي تُنصب في المناطق الجبلية، تمثل استثماراً ثابتاً منخفض الكلفة التشغيلية مقارنة بالطيران، وتتيح التأثير في السحب المنخفضة على مدار الموسم دون استنزاف الموارد الجوية أو رفع كلفة التشغيل.

إلى جانب ذلك، أدخلت الدولة مواد نانوية متقدمة أثبتت فعاليتها بما يصل إلى ثلاثة أضعاف مقارنة بالشعلات التقليدية، ما يعني تحقيق نتائج أعلى باستخدام الكمية نفسها من الموارد.

أما تقنيات الشحن الكهربائي، فهي تمثل مرحلة اختبارية متقدمة تهدف إلى تحسين كفاءة تكوّن القطرات داخل السحب، بما يرفع احتمالية الهطول دون مضاعفة الإنفاق. ويعكس هذا النهج انتقال البرنامج من منطق الكمية إلى منطق الإنتاجية والعائد.

الذكاء الاصطناعي كأداة ضبط

يلعب الذكاء الاصطناعي دوراً مركزياً في تحويل الاستمطار إلى عملية ذات انضباط اقتصادي عالٍ، من خلال تحليل البيانات الجوية في الوقت الحقيقي وربط القرار التشغيلي باحتمالات النجاح الفعلية. هذا الأسلوب يقلل من الاعتماد على التقدير البشري، ويحوّل التدخل الجوي إلى قرار مبني على البيانات، بما يخفض معدلات الخطأ ويعزز كفاءة التخطيط.

وعلى المستوى المالي، ينعكس هذا النهج مباشرة في تقليص الطلعات غير المجدية، ورفع كفاءة استخدام الطائرات والمواد، وتحسين العائد الاقتصادي لكل ساعة طيران. ومع اعتماد التحليل اللحظي، تنخفض الكلفة المتوسطة للعملية الواحدة، ويتحوّل الذكاء الاصطناعي من أداة تقنية إلى آلية حوكمة مالية وتشغيلية تضبط وتيرة الإنفاق وتضمن توجيه الموارد العامة نحو أعلى مردود ممكن.

الإمارات تستخدم تقنية النانو لتلقيح السحب وزيادة هطول الأمطار

معادلة الكلفة والعائد في مواجهة التحلية

تُقدَّر الكلفة السنوية لبرنامج الاستمطار في دولة الإمارات بنحو 9 ملايين دولار، تشمل تشغيل الأسطول الجوي ونحو 1100 ساعة طيران سنوياً. وعند مقارنة هذه الكلفة مع الاستثمارات الضخمة المطلوبة لبناء وتشغيل محطات التحلية، إضافة إلى استهلاك الطاقة والانبعاثات المصاحبة، يتضح أن الاستمطار يمثل خياراً اقتصادياً مكمّلاً يخفف الضغط عن المنظومة المائية ككل.

ولا يعني ذلك الاستغناء عن التحلية، بل إعادة التوازن داخل مزيج السياسات المائية، بحيث يُستخدم الاستمطار لتقليل الاعتماد الكلي على الحلول الأعلى كلفة، وتعزيز الاستدامة المالية والبيئية في آن واحد.

الاستثمار في الاستقرار طويل الأجل

في المحصلة، تتعامل دولة الإمارات مع الاستمطار باعتباره استثماراً طويل الأجل في الاستقرار الاقتصادي، لا مجرد أداة لتحسين الأحوال الجوية على المدى القصير. فكل زيادة قابلة للقياس في الموارد المائية تترجم إلى مرونة أكبر في التخطيط المالي والبنيوي، وتراجع في مستوى المخاطر المرتبطة بندرة المياه، وتعزيز لقدرة القطاعات الاقتصادية على العمل والنمو في بيئة مناخية تتسم بارتفاع درجة عدم اليقين.

وفي منطقة تُقاس فيها كلفة الندرة بلغة الأرقام والمؤشرات لا بالانطباعات، يصبح الاستمطار جزءاً من منظومة الإدارة الاقتصادية الرشيدة، التي تسعى إلى موازنة الكلفة والعائد، وتنويع مصادر الإمداد، وتحويل التحديات المناخية إلى متغيرات قابلة للإدارة.


هذا المحتوى مقدم من إرم بزنس

إقرأ على الموقع الرسمي


المزيد من إرم بزنس

منذ 3 ساعات
منذ ساعتين
منذ 11 ساعة
منذ 24 دقيقة
منذ 16 دقيقة
منذ 3 ساعات
قناة CNBC عربية منذ ساعة
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 9 ساعات
صحيفة الاقتصادية منذ 16 ساعة
قناة CNBC عربية منذ 9 ساعات
اقتصاد الشرق مع Bloomberg منذ 7 ساعات
قناة CNBC عربية منذ 20 ساعة
قناة CNBC عربية منذ 17 ساعة
فوربس الشرق الأوسط منذ 12 ساعة